الجمعة، 5 أغسطس 2011

ما بلعتها

مقالة من أرشيفي، نشرتها في عدة مواقع منها (كلنا شركاء في الوطن) أواخر عام 2005 أعيد نشرها لأن تكتيكات المخابرات السورية في تزييف الوقائع لم تتغير، ولأنني تذكرتها اليوم إثر محاولة جديدة من عباقرة  الأمن السوري لهز مصداقية قناة الجزيرة.

مقدمة.. لا بد منها
  • أقر أنني مواطن عربي سوري، لم أتعرض يوماً للضرب على أيدي المخابرات، ولم أتخلف عن دفع الضرائب المحددة في القانون، والأتاوات التي يسميها القانون رشوة، ويسميها موظفو الجمارك والمرور والسجل المدني.. و و و و  (إكرامية)، وبالتالي فلست (حاقداً) ولا (موتوراً) أهاجم البلد رغبة في دماره.
  • كما أقر أنني لا أحب الأمريكان، وليس لي علاقات سياسية معهم، كما أنني لا أنتمي لأي تيار سياسي، وليست لي مطامح سياسية، ولا يمكن اتهامي بالإمبريالية، كما يصعب اتهامي بالانتماء إلى اليمين العفن (ما كان يطلق على بعث العراق) أو الإخوان المخربين، أو الرفاق الماركسيين.
  • العنوان بالعامية السورية يعني (لم أبلعها)، ومقصوده: لم أستطع تصديق الحكاية.
  • الحكاية المعنية هنا، هي حكاية الشاهد المقنع، المعجزة التي جاءت لنا من السماء لنرفع معنويات شعبنا، وتجعلنا نصرخ في العالم كله: ألم نقل لكم أننا أبرياء؟ بل ونطالب بإلغاء التقرير الأول لميليس الذي اعتمد عليه مجلس الأمن في إصدار القرار 1636 نظراً لأنه مبني على شهادة كاذبة.
لا نحتاج إلى كثير من النقاش لبيان مدى السذاجة (إن لم نقل الغباء السياسي) في طلب كهذا، فمسؤولينا الذين يصيحون ليل نهار بأن سوريا مستهدفة وأن التقرير مسيس، وأن الغرض هو الهجوم على سوريا، هم أنفسهم الذين يطالبون بإلغاء التقرير، ومن بعده قرار مجلس الأمن، لأن الشهادة باطلة. كأن من يستهدفون سوريا يهمهم العدل والحق، ويتحركون بناء على الشهادات والأدلة، فإن انتفت سيتوقفون، والدليل.. أنهم هاجموا العراق رغم معرفتهم بكذب قصة أسلحة الدمار الشامل!
طبعاً لا أعتقد أن السادة المسؤولين قدس الله سرهم بهذه السذاجة، بل هم يدركون تماماً أن وجود الدليل من عدمه لن يؤثر في الموقف الدولي، لكن الهدف من هذه المطالبات والمؤتمرات الصحفية والضجة التي تنبعث من دمشق تعبئة الشارع السوري تحديداً والعربي عموماً خلف الخيار الذي اختارته قيادة الحزب –كونها الأدرى بمصلحة البلاد والعباد- وهو خيار المواجهة والتحدي، ليس لأننا سنتعاون ولن يكفيهم كما جاء في خطاب الرئيس، بل لأن أولاد (الكذا) لا يزالون مصرين على التحقيق رغم ثبوت تورط أبناء الحريري ومساعديه في اغتياله وتلفيق الأدلة لسوريا، حسب ما أفادنا السيد هسام أفاده الله.
وما دمنا قد أتينا على ذكره، لماذا لا نعود إلى شهادته التي لم أبلعها ولم يبلعها أحد من معارفي (الذين يفهمون أكثر مني)، بل إن صديقاً سعودياً اتصل بي فور انتهاء المقابلة على الفضائية ليسألني ضاحكاً: ألم نشاهد هذا الشاهد ممثلاً في الكوارث (يقصد الكواسر مع التصحيف لتكون أصدق على حالتنا اليوم).
الشهادة الغريبة
ما الغريب في شهادته حتى لا نبلعها؟
بعيداً عن الأداء الضعيف والكلام الركيك عن البطولة وفداء الوطن، والحديث الذي يجمع كل من خالف المخابرات السورية على أدراج المونتفردي في وجود الشاهد الذي يعرف الجميع أنه كان من عناصر المخابرات السورية، والذي أكد لهم أكثر من مرة – حسب إفادته – أنه لن يتعاون معهم ضد وطنه (أقترح وضع موسيقى نشيد "موطني" في الخلفية للوصول إلى التأثير المناسب) ومع ذلك يعطونه سيارة ويتركونه حراً في بلد تحيط سوريا بأكثر من ثلثي حدوده البرية، وفيه معابر للمهربين لا تستطيع الجهتان معاً ضبطها، بعيداً عن كل ذلك، يكفي أن ننظر إلى التعامل الرسمي مع حكاية الشاهد لنعرف لماذا لا تبلع.
 إن كان صادقاً
لقد تلقفت السلطات الشاهد الذي (هرب) إلى سورية وأظهرته على الفضائية لأكثر من مرة، بل رتبت ليكون البث على قناة الجزيرة وصورت بكاميرتها –حسب ما ذكرت موظفة في التلفزيون السوري – لكن لم تبث الجزيرة اللقاء كاملاً لسبب ما وبثته الفضائية السورية، ثم عادت لتظهره في مؤتمر صحفي مع المتحدث الرسمي باسم اللجنة القضائية الذي صرح مبتسماً بأن تقرير ميليس سقط بالضربة القاضية بعد هذه الشهادة!
كان الأولى بالسلطات أن تكون أكثر احترافية وأن تتعامل مع الأمر بالأهمية التي يستحقها، ولو كان هناك تصديق لما قاله هذا الشاهد فكان الأجدر أن تقوم اللجنة القضائية بالاستماع إلى شهادته بسرية تامة، وتوثيقها، ثم عرضها على مندوبي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ومن نعتقد أنه يمكن أن يساند موقفنا – بما فيها الجزائر الشقيقة التي صوتت مع القرار – وعلى الأمين العام للأمم المتحدة، كل ذلك بسرية تامة لاستدراج عصابة الأنذال الذين لقنوه الإفادات الكاذبة ونصبوا هذه المكيدة لوطننا، وكدنا أن نقع فيها لولا أن سوريا "لله حاميها" (لست أكرر مقولة السيد الرئيس للسخرية بل للتأكيد، وأنا مقتنع بها مليون بالمائة، فلولا حماية الله سبحانه وتعالى لبلدنا لاختفى عن الخريطة منذ سنوات بعيدة بسبب سياسات إضعاف الجيش وتحويله إلى شركة أمن خاصة لمصلحة الحزب، وإضعاف معنويات الشعب وإذلاله، ... إلخ مما نعانيه منذ أربعين سنة).
لكن ذلك لم يحصل، بل إن المتحدث الرسمي باسم اللجنة القضائية تحول إلى حكم في حلبة مصارعة وأعلن أن التقرير سقط بالضربة القاضية.. لا بأس فالقضاء في بلدنا والتحكيم في المصارعة سيان، طالما هناك من يدفع ويخبرنا من نريده أن يفوز (لا أتجنى على القضاء السوري بدليل المرسوم الذي صدر ويعطي الفرصة لمدة أربع وعشرين ساعة لتسريح قضاة يشك في نزاهتهم دون أن يكون من حقهم الاعتراض، وهو ما لا يحصل في أي دول العالم إلا عندنا).
 أو كان كاذباً:
حسناً، إذا لم تكن السلطات مقتنعة بالشهادة، فواحدة من اثنتين:
إما أن الشاهد كاذب من نفسه، حاول أن يستفيد من التحقيق الدولي ويتكسب بشهادته فلما فشل لجأ إلى حكاية الوطنية وعاد لبلاده يتكسب بشكل آخر، ورغم معرفة المخابرات بالأمر فهم يستغلونه لتحقيق نصر إعلامي فارغ، لن يلبث أن ينقلب علينا إذا ساءت الأمور أكثر في التحقيق.
أو، أن مخابراتنا الذكية قد دست الشاهد – الذي يعمل لحسابها منذ ثلاثة عشر عاماً حسب إفادته – وأمرته أن ينقل معلومات محددة للجنة التحقيق، معلومات تعلم تماماً أن لعاب المحقق الحاقد سيسيل لسماعها، ولأن من يضع الخطة ساقط بكالوريا غالباً فقد اعتقد أن اللجنة الدولية ستكتفي بأقوال الشاهد (أو الشهود) المدسوسين وتعتمد شهاداتهم دون مزيد من التحقيق، ثم يكون تكذيب هذه الشهادات كافياً لنسف التحقيق من أساسه، وإسقاط مصداقية المحقق الألماني.
إذا ما أضفنا لذلك الحملة الإعلامية التي تقول أن والدته يهودية قتلت خلال حرب 67 على الجبهة السورية، وأنه صديق شخصي للقادة الإسرائيليين، تكتمل الصورة في إسقاط حياديته، وبالتالي إسقاط التقرير.
 لكن.. هل تسير الأمور كما خطط لها عباقرة مخابراتنا؟ من تجاربنا السابقة معهم، لم ينجحوا إلا في أساليب التعذيب الجديدة، وبالتالي يصعب تخيل أن ينجحوا هذه المرة أيضاً، مع أنني للمرة الأولى أتمنى أن تنجح مخابراتنا، وأجدني سعيداً بفوزها.. إن حصل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق