ابتليت سوريا منذ عقود بحكم ديكتاتوري جفف منابع الحوار والتفاهم بين
أبنائها، وجعل العمل الجماعي مسألة في غاية الصعوبة، إن لم نقل مستحيلة. تنطبق هذه
الصعوبة على الأعمال التجارية والخيرية، وبالتأكيد السياسية التي كانت شبه معدومة
خلال سنوات حكم عائلة الأسد.
ورغم مضي أكثر من عامين على انطلاق ثورة الكرامة، ووجود جهود منظمة
للعمل الجماعي، بدأت بالتنسيقيات ثم في كتائب الجيش الحر، والمحاولات المختلفة
لتشكيل كيانات معارضة سياسية، إلا أن الافتقاد لثقافة العمل الجماعي، ووجود زعماء
أكثر من عدد الشعب، والاعتقاد المطلق بصواب الرأي الشخصي وخطأ الآخرين، كل ذلك ما
زال يلقي ظلاله على إمكانية تحقيق تقدم على الأرض، دون أن نغفل بالطبع المؤامرة
الكبرى على الشعب السوري، والتي تهدف إلى إطالة الأزمة والاقتتال قدر الإمكان
لتدمير البلد تماماً.
ليس هذا الكلام جديداً فقد سبق أن قاله الكثيرون، لكن ما نكأ جروحي
وجعلني أعود إليه ما لمسته مؤخراً من انطلاق عدد كبير من الهيئات والمجالس التي
تدعي كلها أن لديها الحل السحري، وتضع في إعلانات تأسيسها كلمات كبيرة وأهداف
عظيمة، تحس عند قراءتها أن لا أحد يعمل فعلياً سوى مؤسسي هذا المجلس أو الكيان.
كتائب الجيش الحر تتوحد ضمن ألوية، ثم لا تلبث مجموعة من المنضوين تحت
هذا اللواء أو ذاك أن تختلف مع قيادة اللواء، فتقوم بالانسحاب وتشكيل لواء جديد،
لا يهم العدد، فطالما كان أهل الحق قلة .. هكذا يبررون. بعضهم يشكل كتيبة جديدة
ضمن اللواء نفسه كي لا يخسر الدعم المادي الذي يحصل عليه اللواء، لكنه يحتفظ بقدر
من الاستقلالية يتيح له، في اللحظة المناسبة، أن ينفصل عنه.
المجالس المحلية .. وما أكثرها. في كل حي مجلس أو اثنان، وفي المدينة
هناك مجالس تتنازع ادعاء الشرعية، وكذلك الأمر في المحافظة، وهو ما لمسته بشكل
شخصي خلال العمل على الإعداد لانتخابات أحد المجالس المحلية، كان المسؤولون عن
الاتصال يتفاوضون مع مجلس أحد الأحياء فنفاجأ بزيارة من مجموعة أشخاص يقولون أنهم
يمثلون الحي، والآخرون نصابين. كان المخاض صعباً جداً، وحتى بعد أن تمت الانتخابات
وتشكل المجلس أصبح عاجزاً عن العمل، لأن من لم تعجبهم نتيجة الانتخابات رفضوا
التعاون.
القضاء والمحاكم لم تسلم هي الأخرى من هذا التفتيت، يقوم مجموعة
بتشكيل مجلس، وعند أول اختلاف في الرأي ينسحب جزء منهم ليشكلوا مجلساً مناوئاً
يكون هدفه الأول سحب البساط من تحت قدمي زملاء النضال .. السابقين.
حتى المهنيون والعاملون في المجالات الخدمية، تتكلم مع مجموعة منهم
وتبدأ التنسيق للمساعدة، ثم تلتقي بصديق يقول لك أنه يتكلم مع مجموعة تعمل في نفس
المجال، لكنها غير الأولى .. وهكذا.
الشرعيون، الذين يفترض أنهم الأوعى بأهمية وحدة الصف، وهم من تقع
عليهم مسؤولية توعية كتائب الجيش الحر، باعتبار أن معظمها –إن لم يكن كلها- ترتدي
العباءة الإسلامية، حتى هؤلاء الشرعيين لم يسلموا من هذا الداء، فمجالسهم وهيئاتهم
كثيرة وكلها متناحرة.
أما المعارضة السياسية فلسنا بحاجة للدخول في تفصيلات خلافاتها،
كياناتها وهيئاتها أكثر من أن نعدها، وكلها تدعي الشرعية والتمثيل، وتتسابق لتقبيل
أقدام حفنة من المقاتلين كي يعلنوا دعمهم لها، أو تقوم بتوفير بعض الدعم لناشطين
على الأرض مقابل الحصول على التأييد المصور في مقاطع يوتيوب.
طبعاً لا يستفيد من هذا الوضع سوى النظام، فهو يدرك تماماً طبيعة
الوضع على الأرض، ويعرف أن وجود جهد موحد لإسقاطه مسألة لن تحصل، ولذلك يلعب على
هذه الانقسامات، ويعززها بطرق مختلفة، ساعدته على اقتحام المناطق الإستراتيجية
بالتتالي ودون الخشية من فصائل أخرى قد تهب لنجدة المحاصَرين.
لذلك، أقترح إنشاء مجلس جديد، تكون مهمته رعاية شؤون المجالس، ويتولى
التنسيق بينها، وتحديد الاختصاصات، وتسجيل العدد الهائل من المجالس التي تظهر كل
يوم، والاحتفاظ ببيانات كافية عنها، وربما يقدم خدمات إضافية لاختيار الأسماء، حتى
لا تتكرر الأسماء كما يحصل الآن، بل يمكنه أيضاً وضع الأنظمة الداخلية لهذه
المجالس والمساعدة في بناء هياكلها التنظيمية واختراع المناصب الكافية لإرضاء كل
الطامحين في الزعامة، أي جميع الأعضاء المنضوين تحت المجلس.
أيها السوريون: لا تبكوا ضحايا المجازر، ولا تستصرخوا أمم الأرض لأن
أعداد الشهداء تجاوزت الخمسمائة شهيد يومياً، بل ابكوا أنفسكم وبلادكم، فهذه ليست
سوى البداية، والقادم أسوأ ما لم تتحد الصفوف.