كلما طال أمد الأزمة السورية، ازداد تساؤل المعنيين من مواطنين سوريين (مؤيدين ومعارضين) ومن مراقبين عن المآل الذي ستصير إليه الأمور، وهل سينجح الشعب السوري في الحصول على حقوقه المشروعة من الكرامة والحرية؟ أم سيتم تثبيت حكم آل الأسد لثلاثين سنة قادمة، وتحويل سورية إلى مملكة تحكمها سلالتهم؟
ليس من السهل الإجابة على التساؤل لتعقد وتشابك العوامل المختلفة في المشهد السوري اليوم، خصوصاً على ضوء تحييد الأغلبية الصامتة في المدينتين الكبيرتين (دمشق وحلب)، وانحصار التظاهر في أعداد -رغم كثرتها- لا تشكل الأغلبية السكانية، إلا في حالات محدودة. وقد بدأت بالازدياد مؤخراً.
لكن في سياق تحليل الوضع الراهن سعياً إلى توقع نهاية الأمور، علينا أن نحصر أهم العوامل التي يراهن عليها كلا الطرفين، أعني النظام والشعب، ونفهم تأثيرها الواقعي على الأرض.
رهانات النظام
منذ بداية التظاهرات، بدا واضحاً أن النظام السوري لن يتبع نفس نهج النظامين التونسي والمصري في التعامل معها، ورغم أن التعامل الإعلامي كان مشابهاً جداً - خصوصاً في البداية- إلا أن التعامل على الأرض كان مختلفاً، وبدا واضحاً أن للنظام السوري رهاناته المختلفة، والتي يستعملها حتى الآن بشكل جيد، بدليل أنه لم يخرج علينا أي مسؤول غربي حتى الآن بعد ثمانين يوماً من التظاهرات، ويقول أن الأسد فقد شرعيته ويجب أن يرحل، ناهيك عن جامعة الدول العربية التي تغط في سبات عميق.
فعلى ماذا يراهن النظام؟
القمع الشديد
أول وأهم رهانات النظام هي آلة القمع الوحشية التي يمتلكها، والتي طورت خبراتها الموروثة أصلاً من أجهزة موغلة في الإجرام (في عهد الوحدة كان السراج يذيب معارضيه بالأسيد). هذه الآلة القمعية جربها حافظ الأسد في الثمانينيات من القرن الماضي ونجحت في إبقائه في الحكم، بل وسهلت انتقال الحكم إلى ولده بشكل أسهل من بيعة يزيد بن معاوية، ولا زالت ذكراها حية في نفوس السوريين حتى اليوم، وقد جربها الابن كذلك بعد ما عرف بربيع دمشق حين قضى بضربة واحدة على كل معارضيه خارج النظام، وعلى الأقوياء في النظام ممن يمكن أن يشكلوا خطراً عليه.
لكن ما لا يحسب النظام حسابه وهو يستخدم القمع، أنه في الحالة الأولى كانت هناك مجموعات مسلحة تقوم بالهجوم على رجال المخابرات وتستهدفهم، مهما كانت مبرراتها ومن بدأ بالعنف فهذا يحتاج إلى تحقيق محايد، أما الوضع اليوم فمختلف تماماً، حيث الثورة شعبية، وسلمية، ووسائل الاتصال والتغطية الصحفية تجعله عاجزاً، رغم تركيبته الإجرامية التي شاهدنا نتائجها المأساوية في درعا وتلكلخ وغيرهما، تجعله عاجزاً عن ارتكاب مجازر بحجم وهول ما فعله سابقاً.
المصالح
لا شك ان الفساد المستشري في سورية، وتزاوج السلطة مع رؤوس الأموال، سفاحاً لا شرعاً، أديا إلى توسع دائرة المستفيدين من النظام والحريصين على بقائه لما يضمنه لهم من مكاسب وأسلوب حياة لا يمكن أن يحصلوا عليها في وجود قانون حقيقي وشفافية إعلامية تراقب التجاوزات وآلة عدالة تطبق القانون بالعدل، ولذلك لا زال كبار التجار والصناعيين في دمشق وحلب، كما هو حال بقية المستفيدين منه في المدن الأخرى، يؤيدون النظام، ويدفعون الأتاوات للشبيحة والمجرمين، الذين عفا عنهم الرئيس بمرسوم خاص وأطلقهم من السجن، كي يقوموا بضرب المتظاهرين ومنعهم من التجمع بينما يتفرج الأمن ولا يتدخل إلا لحسم النتيجة في حالة تراجع الشبيحة.
الرهان على المصالح رهان آني، سوف يبدأ بالاهتزاز كلما طال أمد التظاهرات واتسعت رقعتها، لأن مصالح هؤلاء المنتفعين تبدأ في التأثر، وسط دعوات للمقاطعة تنتشر بشكل يومي بين أبناء الشعب السوري، ولا بد أن يصلوا إلى مرحلة يدركون فيها أن مصلحتهم لم تعد مع نظام مهدد، وحينها سينقلبون عليه بكل بساطة، ودون أدنى تردد.
الدعم الخارجي
يتمتع النظام بدعم خارجي غير مسبوق بالنسبة للأنظمة التي سبقته لمواجهة مصيرها، وسواء كان الدعم علنياً، كما هو الحال مع روسيا والصين وإيران مع التفاوت في درجة الدعم المتوقعة من كل منها، أو كان دعماً مستتراً بالصمت عن ما يجري، كما هو حال الدول العربية الخائفة من انتقال عدوى الثورات إليها، أو دعماً مستتراً بالتنديد الخجول، وتجميد الأرصدة غير الموجدة أصلاً كما هو حال العالم الغربي، يبقى هذا الدعم كله دون الدعم الحقيقي الذي يعول عليه النظام، وهو الدعم الصهيوني ومن ورائه سيدة العالم الجديد أمريكا.
لم يعد سراً أن النظام الأسدي الذي سلم الجولان للصهاينة قبل أن يصل جنودهم لها، وحافظ على جبهته معهم ناصعة البياض لا تعكرها طلقة واحدة، وسمح لطائراتهم بالتحليق فوق قصر رأس النظام، هو أفضل نظام على الجبهة السورية، ولا يمكن للصهاينة أن يغامروا بفقده، ولذلك يقفون معه بكل ثقلهم، ويوجهون الآلة الإعلامية العالمية التابعة لهم للعزف على وترين: أنهم يتنبؤون بسقوطه، مما يؤيد نظرية المؤامرة الخارجية، وأنهم يخشون من سقوطه، مما يربك المتلقي العادي ويظن أنها فبركات من قبل المعارضة، فلا يصدق أي أخبار أخرى تصله من المعارضة.
كما أن النظام يخوف العالم أجمع بالبديل الإسلامي المتشدد الذي سيأكل الأخضر واليابس إن وصل للحكم، ويصر على أنه لا يوجد بديل لديكتاتورية الأسد إلا ديكتاتورية أخرى من الإسلاميين الذين سيكونون أسوأ بكثير منه كما يروج.
جميع هذه الرهانات سوف تسقط، بالتدريج طبعاً، حيث ستخضع الحكومات الغربية المنتخبة ديموقراطياً لضغوط الرأي العام في دولها، وستميل الصين وروسيا مع مصالحهما الخاصة، وتستخدمان النظام كورقة ضغط على المعسكر الغربي للحصول على امتيازات وتنازلات في أماكن مختلفة (كما حصل مع النظام الليبي)، بينما ستجد إيران نفسها تدافع عن حصان خاسر، أفضل ما تستطيع الحصول عليه منه هو مقايضته مع أمريكا ببعض التنازلات كذلك.
مشكلة الاكراد
كانت مشكلة الأكراد دائماً مصدر قلق واضطراب للنظام السوري وجيرانه في تركيا والعراق، والنظام الآن يراهن على استغلال هذه الورقة لأقصى درجة عبر التلويح بمخاوف كردستان الكبرى في حالة سقوطه بعمل عسكري، حيث يستطيع الأكراد السوريون بسهولة التواصل مع أكراد العراق ومن ثم تقديم الدعم لأكراد تركيا للعمل على تحقيق الحلم القديم.
بالطبع لا تصلح هذه الورقة إلا للضغط على تركيا التي فهمت الرسالة من التفجير الذي تعرض له موكب أردوغان الشهر الماضي، وخففت من لغتها العلنية، بينما بدأت بنشاط محموم عمليات استخباراتية واسعة جنوب البلاد لتفادي مثل هذا التواصل.
وهنا أيضاً يفشل رهان النظام، فالأكراد السوريون أثبتوا من خلال تعاملهم مع مرسوم الجنسية كأنه رشوة حقيرة، ومن خلال رفعهم للعلم السوري في مظاهراتهم، إضافة إلى تفاعلهم الرائع مع مواطنيهم من العرب والتركمان والآشوريين وغيرهم، أثبتوا أنهم وطنيون أكثر من نظام يبيع أرضه ليثبت كرسي الحكم، وحديثهم المتواصل عن المساواة بين جميع الأعراق في الدستور السوري الذي ينشدونه تأكيد آخر على اندماجهم التام في النسيج الوطني السوري الذي سيبرز ناصعاً متجانساً متى تم تنظيفه من شوفينية حزب البعث الذي يرغم الجميع أن يكونوا عرباً كي يكون لهم مكان في وطن يسع الجميع.
البروباجندا الاعلامية
حتى الآن تعتبر البروباجندا الإعلامية أفضل الأوراق التي يلعبها النظام – ليست الأقوى لكنها الأفضل منن ناحية النتائج – فما يبثه الإعلام بشكل رسمي، أو من خلال شائعات وأقاويل وأخبار كاذبة يساهم في إبقاء الكتلة المحايدة من الشعب صامتة، عبر تخويفهم من النموذج الليبي (حرب أهلية/تقسيم) أو تخويفهم من السلفيين (سبي نساء، جزية على النصارى، تطبيق أعمى للحدود) وهو لا زال يجد من يستمع له من الشعب السوري، بل ويجادلون من كان في المعارضة بأن ما يحصل ضد مصلحة البلد وسوف يخرب البلد.
رغم تفاهة هذا الرهان، إلا أن الحالة النفسية للشعب السوري – في مجمله – التي أصبحت تميل إلى الاستكانة والرضا بالموجود السيء خوفاً من المستقبل المجهول الذي قد يكون أسوأ منه، هذه الحالة تجعل إسقاط هذا الرهان مسألة مهمة جداً، وتشكل تحدياً كبيراً أمام الثوار لفضحه وبيان كذبه بكل طريقة ممكنة، وكلما كان العمل على إسقاط هذا الرهان أسرع، كلما تغيرت المعادلة على الأرض بشكل أكبر.
رهانات الشعب
على ماذا يراهن الشعب السوري المنهك من جراء قمع مستمر طوال أربعين سنة، وحالة طوارئ حكمت البلاد ثمانية وأربعين عاماً، ومئات الآلاف من القتلى والمفقودين والسجناء والمهجرين؟
أي أمل لدى الشعب السوري في مواجهة آلة القمع الرهيبة التي يسلطها النظام، والتي بدأت تصل أخبار متواترة وذات مصداقية تشير إلى أنها تستخدم خبرات خارجية وعناصر لا ينتمون للشعب السوري لتشديد حجم القسوة على الشعب؟
ربما كانت رهانات الشعب بسيطة، وغير واضحة، بمعنى أنه لم يجتمع الشعب، أو قيادات محددة له للتفكير في ما سيحصل، وأي عوامل يجب التمسك بها ودعمها، لكنها بالتأكيد رهانات بديهية، وتصل القناعة بها إلى درجة أن العشرات يدفعون أرواحهم راضين أسبوعياً، وهم على قناعة بأن الغد سيكون لصالحهم.
كسر حاجز الخوف
ما مكن للنظام طيلة السنوات الماضية، وما منع أي تغيير للأفضل في سورية طوال أربعين سنة أو أكثر هو الخوف الرهيب الذي يعيشه المواطن السوري في حياته من المهد إلى اللحد. هو يخاف من إبداء رأيه سراً لأخيه في غرفة مغلقة، لا لأن الحيطان لها آذان، لكن لأن النظام المجرم نجح في جعل الإخوة يتجسسون على إخوتهم.
مع كل هذا الخوف، خرج السوريون ينادون (بعد اليوم ما في خوف)، بتلقائية وعفوية جعلت من هذا النداء أحد الشعارات المميزة للثورة السورية، فهو تعبير عن تحطيم (حائط بارليف الأسدي) الذي جز السوريين عقوداً طويلة عن حريتهم.
المساواة في القمع
خلال سنوات حكمه الماضية، اتبع النظام سياسة عادلة في توزيع الظلم، فهو كان يوزع جرائمه على الشعب السوري بكافة أطيافه السياسية، والإثنية، والدينية والمذهبية. لم تنج فئة من فئات الشعب السوري من ظلم تعرض له بعض أفرادها، أو عدد كبير منهم.
هذا القمع العام، يجعل من إسقاط النظام هدفاً جامعاً لكل فئات الشعب، صحيح أن النظام يقوم الآن بتخويف الطوائف الأقل عدداً من سقوطه، ويستغل بعض المأجورين منهم (كما يفعل بكثير من الخونة من أبناء الطائفة السنية) لضرب المتظاهرين والإساءة إليهم، إلا أن العقلاء من أبناء هذه الطوائف، كما عقلاء الكرد والشركس والتركمان والأرمن، يدركون أن هذه اللعبة التافهة من النظام هي لإطالة أمد بقائه عبر تجميع أعداد أكبر من المؤيدين الذين يؤمنون بأن وجود النظام هو الحامي الحقيقي لوجودهم، ما يجعلهم أكثر استماتة في الدفاع عنه من أصحاب المصالح الذين لن يلبثوا أن ينفضوا عنه.
الكرامة
إحساس الكرامة الذي حرم السوريون منه طويلاً عبر طوابير الإذلال من أجل لقمة العيش، وامتهان آدميتهم في فروع التحقيق المختلفة، واستعبادهم لخدمة الضباط –لا الوطن- من خلال الخدمة العسكرية الإلزامية، إضافة إلى ما يشاهدوه يومياً من ممارسات منحطة للمستفيدين من النظام، هذا الإحساس الذي بدأوا يستشعرونه أغلى من أن يفرط به من أحسه من السوريين، فالكرامة مهمة لدى شعب مثل الشعب السوري الذي قاوم الفرنسيين والإنجليز وقبلهم العثمانيين حرصاً على كرامته وعزته.
سيظل الأحرار الذين تنوقوا طعم الكرامة للمرة الأولى منذ عقود مستمرين في تظاهراهم حتى إسقاط النظام، هكذا يقولون، وهكذا تشير أعداد الشهداء التي تسقط يومياً في شتى المناطق السورية.
فساد النظام
الفساد الذي زرعه النظام عبر أعوام، حرص فيها على تخريب ذمم الموظفين الحكوميين بالرشاوي، وذمم بقية الشعب بتقديم الرشاوي للحصول على التسهيلات والالتفاف على القوانين، هذا الفساد نفسه هو ما سيحصده انهياراً وشيكاً في البنية الداعمة له.
فالأجهزة الأمنية المتعددة التي تحمي النظام، والتي كانت تمتص من ميزانيات الدولة الشيء الكثير، هذه الأجهزة ظهر ضعفها وغباؤها وافتقارها إلى أدنى درجات التدريب والتأهيل، ما يعني أن هذه الميزانيات كانت تستقر في جيوب رؤسائها، ولا يصل للأجهزة إلا ما يبقيها قائمة كي تضمن المزيد من الأموال لمسؤوليها.
أما مؤسسة الجيش التي يعول عليها النظام الآن في عملية القمع، فهي تشكو منذ زمن بعيد من الفساد، حيث يشتهر أن الضباط الكبار يسرقون ميزانيات قطعاتهم ولا يصرفون على الجنود إلا أقل القليل، مما يغذي شعور النقمة لدى الجنود ضد هذه القيادات.
بل امتد الأمر إلى نواحي أخرى، لم تخطر ببال المراقبين، فقد سرى خبر منذ أيام عن افتقار المصانع الحربية إلى النحاس الكافي لتصنيع الذخائر، وهذا أمر مفاجئ جداً، ففي سورية لا يطلق الرصاص إلا في التدريب أو على المتظاهرين، ولم تدخل البلد حرباً منذ سنوات بعيدة، فأين كان يذهب إنتاج هذه المعامل وهي تعمل بشكل مستمر؟ التبرير الوحيد أن مافيا الفساد القائمة في الجيش كانت تبيع النحاس لمصانع أخرى، وتحصل على تواقيع قيادات القطعات أنهم استلموا الذخائر، ليتم بعدها توزيع الأرباح بينهم على أساس أن الذخائر لن نحتاج إليها في ضوء اتفاق القيادة السياسية مع العدو الصهيوني والحب المتبادل بينهما.
خسارة كل شيء
حين يجازف شخص ما مجازفة كبيرة، وننصحه بالتعقل، يجيب أنه ليس لديه ما يخسره، وهذا هو بالضبط حال الشعب السوري اليوم.
أربعون عاماً من حكم آل الأسد سلبت ثروات، وطاقات، وكرامة، وإبداع وأحلام السوريين. أصبح الطبيب السوري المشهود له بالكفاءة عالمياً يقبل العمل في الخليج بمرتب لا يتجاوز ستمائة دولار، لا لأنها تكفيه أو تحقق له حياة لائقة، بل لأنها الطريقة الوحيدة للحياة في بلد أصبحت متخصصة في طرد الكفاءات وقتلها.
عامل الزمن
أهم عامل يراهن عليه السوريون اليوم هو عامل الزمن، كل ما طال أمد التظاهرات، كل ما ضعف موقف النظام وأصبح أقرب إلى الانهيار عبر تزايد حركات الانشقاق من المجندين الذين يطلب منهم النظام قتل أهلهم، أو عبر انهيار تحالفات المصالح مع المستفيدين من النظام الذين بدأت مصالحهم بالتأثر، إضافة إلى تصاعد الضغوط الشعبية في العالم على الحكومات لنزع الشرعية عن النظام المجرم، وهو ما لن تستطيع الحكومات المتواطئة حالياً مع النظام مقاومته طويلاً.
عامل الزمن سيؤدي إلى إقناع المزيد من المنتمين إلى الأغلبية الصامتة بأن صمتهم يؤدي إلى قتل المزيد من إخوتهم، وبأن الدور سيكون عليهم قريباً، وستتحرك سورية كلها بشكل فعلي لا مجازي لإسقاط نظام سقط فعلياً منذ اعتقل أطفال درعا.