أقف عاجزاً أمام من
يفقد عزيزاً.
لا أعرف كيف أعزيه ..
تهرب الكلمات مني مهما حاولت الاستعداد للموقف.
ليس الأمر متعلقاً
بالشهداء، هؤلاء لا نعزي بهم، بل نهنئ أهلهم ونعزي أنفسنا أن فقدنا النقاء الذي
كان في حياتنا.
أتحدث عن الوفاة، عن
الفقد الذي يرحل بعزيز تعودنا وجوده، لذلك كنت دائماً أتهرب من مجالس العزاء، وإن حضرتها كنت سريع المغادرة، وجودي فيها لا معنى له سوى إشغال كرسي آخر، لا أعرف ماذا أقول، فألوذ بصمت مزعج.
الآن اختلف الأمر.. كان علي أن أحضر العزاء، أن أجلس حتى أكون آخر المنصرفين لعلي أن أخفف عن أهل الراحل.. فأزيد من شعوري بالضعف والحيرة.
أتحدث عن نظرة
الانكسار والحيرة في عيني صديقي الذي جاوز الأربعين، نظرة لا أستطيع وصفها مهما
حاولت .. مع أنني أعرفه أفضل مما أعرف نفسي ، كان يكفي أن أنظر في عينيه لأدرك ما
يعانيه، كان يكفي أن أسمع "صباح الخير" منه لأعرف بأي مزاج هو، وما الذي
يكدره إن كان متكدراً، لكنه عند فقد والده –والدنا- صار غريباً حتى عن نفسه.
أدرك شعور اليتم عند
الصغار، مررت بالتجربة مع أبناء قريب لي، ورأيت نظرات الحيرة واليتم في أعين
أولاده، كانت تحرقني وأنا ألاعبهم وأضاحكهم، وأكتم عبرتي لتنساب بعد أن أتركهم،
لكنني لم أتخيل قط أن الإحساس باليتم سيكون أكبر عند الكبار.
وقفت أمامه عاجزاً عن
الحديث، لا أجد الكلمات التي أعزيه، أو أعزي نفسي بها، حاولت كثيراً مشاغلته، كان
يجيب على كل شيء، لكنه لم يكن معنا، وإذا التقت عيوننا فجأة لمحت فيها الشعور
الرهيب بالحيرة والوحدة، مع أن الفقد لم يكن مفاجئاً بل متوقعاً، فالراحل الكبير
(قدراً وعمراً) كان مريضاً لفترة طويلة، واشتد مرضه أخيراً، لكن صاحبي كان يعلل
نفسه بأنها أزمة وتمر كما مر غيرها، وعندما رحل الوالد وقف هو حائراً يسائل نفسه:
ماذا أفعل بعدك يا أبي؟
يلومه من يلوم لأنه
مستغرق في حزنه، أما أنا فلا أملك إلا أن أشاركه الحيرة الرهيبة، أحاول أن أبدو
متماسكاً، وألقي بعض النكات، أجمع الأصدقاء لتسليته، أحاول انتشاله من حيرته، ثم
أنزوي في ركن قصي من سرادق العزاء عاجزاً، تماماً كصاحبي، حائراً مثله، أترحم على
الراحل، وأرثي لحال من بقي بعده.
يموت المئات حولنا
يومياً، نسمع عن فلان وفلان، نألم لألم أهلهم، ونخبرهم أن الحزن لا يجب أن يستمر،
نذكرهم أن من رحل قد انتقل إلى الحياة الحقة، ونهون عليهم بشهادات من عرفوا
أحباءهم بأنهم من أهل الخير والصلاح، لكن .. لا يعرف الفقد إلا من جربه، وقد جربته
الآن ووقفت أمامه عاجزاً عن الكلام.
اللهم ارحمنا فوق
الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
ماذا أفعل بعدك يا أبي الحبيب - الله يرحمك الرحمن الرحيم و يحسن إليك- هكذا كان يترحم على والديه و هكذا نطقت عند وفاته و لم أكن أعلم أنها محجوزة في ذاكرتي له فقط وكأنه علمني هي صغيرا لأدعي الله له بها عند فراقه.
ردحذفعند وفاته شعرت أن الموت سهل و ليس به أي مشقة، تمنيت رفقته، و لا أبقى وحيدا من غيره.....
عندما رأيته أول لحظة بعد الوفاة حضنته و استلقيت بجانبه , محاولا أن أقول له لا تذرني و حيدا،،..
شعرت أني عدت ابن 7 سنوات لا يطمئن إلا عند حضن والده او عندما يمسك يده إذا فزع او فرح او ارادا فقط ان يشعر بالاطمئنان..
رأيت أبي الحبيب عند رحيله بأجمل منظر رأيته فيه منذ وعيت له.
رأيته مطمئن ، مستقر ، مبتسم، معافا، وجهه مزهر مبتسم،،لاكن فقط لا يتنفس و لا بنبض قلبه، و سيغادرني جسده و روحه و كل شيء منه بعد قليل من الوقت، و لا أملك له شيء،،،
شممته، شممت وقبلت رأسه و خده وصدره و رقبه ,هكذا كان يفعل لي في مرضي وانا صغير ، ويقول ستتعافى إن شاء الله،،،، فهل كنت أحاول أن أسترجعه،،،
لا أرغب الأن أن أسترجع أي شيء بعد ذلك الصباح،
اليوم أصبحت أرى أبي في كل كبير سن في كل مريض في كل أب،
اليوم وقد تجاوز فراقه الشهور العشرة،،،،، يزداد حزني على فراقه يوم بعد اليوم،،،عشرة شهور و كأنها صباح اليوم...
أراه في كل مناسبة ، أتعرف على أبي الحبيب كل يوم أكثر و أحزن أكثر و أشتاق له أكثر و أكثر....
رأيته بأجمل الرؤى يعد فراقه،،، و في كل رؤية أطلب منه أن يضمني إليه ، و يفعل و يضمني ، و أشعر أن الله سبحانه قد منّ علي بأن أعطاني حضن أبي الحبيب بعد فراقه، وأنه راض عني، و الله العظيم أني أسيقظ من نومي بعد الرؤيا و أنا على يقين بأنني وهبت حضن أبي الحبيب...
أبي الحبيب ، أحبت دين الله و أحببت رسوله صلى الله عليه وسلم، و أحببت إخوانك في الدين، و أحببت عباده و خلقه،،، و عملت بذلك الحب و أتبعت أحسنه،
فلا أظن بالله العلي القدير إلا أنه يحبك و أنه سيرزقك الفردوس الأعلى بغير حساب،،،،
والدي الحبيب إن الله سبحانه و تعالى مطلع على كل شيء و يعلم ما أكتب لك الأن و ما في قلبي لك من حب و تقدير و أسأله و هو الكريم و أنا الفقير، و أسأله و هو الوهاب و أنا المحروم، و أسأله و هو البر الرحيم و أنا العبد الضعيف ،، أن يمنّ علي بأن أكون ذلك الولد الصالح الذي يدعوا لوالديه فيجاب و يعمل عن والديه فيتقبل منه,, إنك سميع مجيب...
أخي في الدين و الروح حبيب والدي و حبيبي أبو محمد،، ،،،
لم أقراء كتابك هذا إلا اليوم،،،
كل ذكرى لابي الحبيب تحزنني و تألمني و لكن هذا الألم و الحزن يجعلني أشعر أنني بقربه أكثر فأطمئن بحزن و شوق ،و أمل بالله أن يجمعني به في عليين و في جنات النعيم،
لا أستطيع أن أشكرك سوى بأن أدعوا الله سبحانه و تعالى لك بما أدعوا به لوالدي بأن يمتعك بوالديك سنين عديدة و أعواما مديدة قابلة و مقبلة و هم بأفضل حال يرضها الله، , وأن يرزقهم السعادة و الرضى و الصحة و العافية و يذهب عنهم الهم والغم ، و أن يرزقهم التوبة و المغفرة و حسن الخاتمة ،،، إنه سميع مجيب.
محبك في الله