الثلاثاء، 19 يوليو 2011

معوقات التغيير في سورية-2- جمهورية الخوف

استطاع الشعب السوري البطل أن يكسر حاجز الخوف، وأن يخرج من نطاق السلبية، لكن أمامنا الكثير لتحقيقه بعد.
هذه من القديم الذي ما زلنا بحاجة لاستذكاره ضمن التأسيس لمشروع مستقبلي

يبدو العنوان اسماً لفيلم عربي وليس وصفاً لبلد عربي في القرن الحادي والعشرين، لكن إحدى أكبر المشكلات التي تواجه عملية التغيير في سورية وتعرقلها هي تجذر الخوف في نفوس السوريين وصولاً إلى مرحلة المرض، بحيث أصبح الحديث عن أي أمر – مهما كان تافهاً – عملية محفوفة بالمخاطر، يتندر عليها السوريون المغتربون برواية طرفة مشهورة عن شابين واقفين في طابور طويل لجمعية استهلاكية (أقامها النظام لاستهلاك طاقة الشعب وليس لتوفير المواد الاستهلاكية كما قد يتبادر خطأ لأذهاننا) فأخذ أحدهما يصيح قائلاً: كيف لا توجد لديكم هذه المواد؟ أين السكر؟ أين الرز؟ أين صاحبي؟ أين تأخذونني؟
هذه الطرفة التي تتحدث عن سرعة وصول عناصر المخابرات تلخص واقع أن الشعب يتجسس على نفسه كنتيجة لعملية الانهيار الأخلاقي التي يقودها الحزب القائد للدولة والمجتمع منذ أربعين سنة.
الأجهزة الأمنية
تتعدد الأجهزة الأمنية وتتشابك في اختصاصاتها وأدوارها، بل إن كثرتها بلغت حداً يجعل من الصعب التمييز بينها بأسمائها التي تعبر عن طبيعة العمل والجهة التي تتبعها، فاستعاض القائمون عليها بالأرقام، وأصبح المغضوب عليهم يطلب منهم مراجعة الفرع رقم (كذا) وبحسب الرقم تكون التهمة أو مدة (الاستضافة) التي سينعمون بها.
بالنسبة لعامة الشعب، يعرف الجميع أن المباحث الجنائية التابعة لوزارة الداخلية تقوم بمهام التحقيق والضبط للقضايا الجنائية، وهي أضعف الأجهزة الأمنية حضوراً وأقلها تجهيزاً وخبرات وسلطة لأن مهمتها هي حماية المواطن من المجرمين، أما الأجهزة الأخرى التي تنعم بتوفر كافة الإمكانات والتجهيزات لأنها معنية بحماية النظام من المواطنين فتشمل:
- المخابرات العامة
- الأمن السياسي.
- أمن الدولة
- الأمن العسكري (ويشمل تحته فرع فلسطين السيئ الصيت)
- المخابرات الخارجية
- المخابرات الجوية
وما لا نعلمه من أجهزة أخرى، وكلها لديها فروع بأرقام مختلفة (255، 279، 318) ولديها صلاحيات شبه مطلقة تخول أي عريف فيها اعتقال أي أستاذ جامعي للمدة التي يراها دون أن يجرؤ أحد على محاسبته.
هذه الأجهزة تعمل على زراعة الخوف والشك في نفوس المواطنين، وتتأكد – عبر ممارسة التعذيب الوحشي الممنهج والمنظم – من تعزيز الرعب في القلوب حتى لا يفكر أحد في الإقدام على أي تحرك باتجاه التغيير، حتى لو كان هذا التغيير بالكلام.
ثقافة التقارير
عبر سنوات من حكم البعث طور النظام آلية معقدة للتأكد من الولاء تشمل من ضمن ما تشمله أن يتحدث أحد عناصر المخابرات بكلام ضد الدولة في مجلس عام، ويتم استدعاء من لم يكتب تقريراً بما سمعه إلى الفرع المناسب ليأخذ نصيبه من التأديب فيقوم بالتالي بتسجيل كل ما يسمعه في المجالس الأخرى وينقله حرفياً إلى أجهزة المخابرات خوفاً من تكرار جلسات التأديب.
من الطبيعي أن من يقوم بهذا العمل إما خوفاً أو طمعاً في عائد يفقد احترامه لنفسه شيئاً فشيئاً، ويتحول تدريجياً إلى مستفيد من هذه التقارير يقوم بتأليفها ضد خصومه للتخلص منهم، والقصص الواردة في هذا المجال كثيرة، حتى أن الدراما السورية – التي يستخدمها النظام آلية لتنفيس الغليان الشعبي عبر التظاهر بوجود حرية النقد – قد تعرضت لهذا النوع من التقارير في عدد من المسلسلات السورية، إلا أن من آخر ما سمعته في هذا المجال هو استدعاء أحد التجار لفرع أمن الدولة للتحقيق معه في ما نسب إليه من توجيه شتائم للنظام والسيد الرئيس، ويبدو أن الرجل مدعوم فلم يتوقف قلبه رعباً بل سأل المحقق عن مكان وتاريخ الحديث المنسوب إليه، ولحسن حظه فقد كان خارج سورية حينها واستطاع إثبات ذلك بإبراز جواز سفره.
المذابح الجماعية
في أوائل ثمانينات القرن الماضي تصاعدت حدة الاشتباكات بين الدولة والإخوان المسلمين، وحصلت مجزرة تدمر الشهيرة وعمليات الإبادة الجماعية في حماة، مما جعل الشعب السوري بكامله يقع تحت سلطة الخوف المطلقة بعد أن رأى ما يمكن لآلة الدمار المسماة زوراً بالدولة أن ترتكبه بحق الأبرياء.
والحقيقة أن النظام لم يؤدب أبناء الشعب السوري الأحياء وقت المذابح فقط، بل استطاع كذلك، عبر نقل الرواية من جيل لآخر واستمرار إحكام القبضة الأمنية، أن ينقل الخوف ذاته إلى الأجيال اللاحقة، لذلك لا يجرؤ السوريون اليوم على التجمع كما فعل الكروات أو اللبنانيون في مطالبتهم بحريتهم لقناعتهم أن النظام الذي قتل الآلاف بقصف مدينة بكاملها لن يتورع عن إطلاق النار على المئات منهم إن هم تجمعوا للتعبير عن وقوفهم ضد ما يفعله بالبلد.
سنوات الاعتقال والتعذيب
يكاد لا يخلو بيت سوري واحد من معتقل سياسي إما سابق أو حالي أو تحول إلى شهيد بجهود النظام القمعي. هؤلاء المعتقلون يشكلون عاملاً إضافياً في تعزيز الخوف المتمكن من نفوس السوريين، وإذا كان من ماتوا في الاعتقال ويعتبرون مفقودين حالياً يشكلون عامل (تذكير) لأهلهم وأقاربهم بالمصير الأسود الذي ينتظر المعترضين، يعتبر المطلق سراحهم وسيلة أكثر فعالية في إيصال رسالة الرعب إلى أكبر عدد من الناس وعبر أطول مدة ممكنة، فهؤلاء الذين لقوا في المعتقلات أصناف العذاب التي لا تخطر على بال بشر ثم أطلق سراحهم يقضون فترة من الوقت لا يتحدثون فيها عن ما شاهدوه من مآس خلال فترة الاعتقال، فترة الصمت هذه قد تطول أو تقصر تبعاً لمقدار جرأة الشخص، وحجم التعذيب الذي تلقاه، إلا أنها بالتأكيد تؤدي دورها في إرهاب غيره بكونهم يشاهدون تعابير الهلع على وجهه عندما يسألونه عن ما حصل له.
والفترات اللاحقة التي يتحدث بها هذا المعتقل تجعل الأثر مضموناً عبر تداول القصص المحزنة عن أنواع التعذيب التي يتفنن بها نازيو البعث.
وأخيراً، تشكل المراجعة الأمنية الدورية – كل شهر أو ثلاثة أشهر – لفرع الأمن الذي قام بالاعتقال أول مرة مسألة مهمة من ناحية تذكير المعتقل بالأجواء التي كان فيها فلا يفكر بأي عمل، وتذكير من حوله بالإهانات التي سيتعرضون لها، والتي لا تخلو منها زيارات المراجعة، إضافة إلى الحصول على المعلومات عن كل من يحتك بهم المعتقل السابق عبر التحقيق معه.
كيف ننزع الخوف
هناك تجربة مهمة في علم النفس الاجتماعي تمت على القرود، لكنها توصلت إلى نتائج تنطبق على البشر، خصوصاً البشر الذين يعيشون عيشة (السعادين) مثلنا، تتلخص في وضع مجموعة من القرود في قفص معلق فيه موز وهناك سلم يمكنهم من الوصول للموز، عندما ينقل أحد القرود السلم قريباً من الموز المعلق ويحاول تسلقه يتم رش القرود جميعاً بالماء البارد جداً. طبعاً القرد الذي يحاول تسلق السلم يبتعد فوراً، وبعد قليل يحاول آخر فتتكرر العملية وهكذا، حتى وصلت القرود إلى مرحلة تمنع فيها أياً منها من لمس السلم وتضربه إذا اقترب منه لارتباطه بالماء البارد في عقلها.
بعد فترة بدأت عملية استبدال القرود بالتدريج بقرود أخرى لم تطبق عليها التجربة، لكن القرود القديمة كانت تضربها كلما حاولت الوصول للسلم، وفي نهاية التجربة تكون جيل جديد (خمسة قرود جديدة لم يتم رشها بالماء البارد) لا تجرؤ على صعود السلم، وتضرب أي قرد يحاول أن يصعده لأن هذا ما تعلمته من الجيل السابق.
النظام السوري طبق هذه العملية على البلد بكاملها بشكل ناجح تماماً، فاليوم يتولى الأهل إسكات أبنائهم المزعجين للنظام – خوفاً عليهم من سوء المصير – كما أن الأجيال الجديدة – إلا ما ندر - تتجنب الخوض في السياسة ودعوات التغيير لا بسبب ما تعرضت له، بل بسبب ما سمعته عن أحداث وقعت لمن حاول فبلها.
المطلوب هو تحرك واع ومنظم يركز على تبيان حقيقة مهمة قد يغيبها الخوف عن عقول المواطنين السوريين الواقعين تحت رحمة النظام القمعي، هذه الحقيقة تتلخص في أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يختلف عن ثمانينيات القرن الماضي، فلم يعد بإمكان النظام أن يقطع الاتصالات الهاتفية عن البلد بكاملها، كما لم يعد بإمكانه التعتيم على ما يرتكبه في ظل وجود الفضائيات وأجهزة الجوال والإنترنت ومنظمات حقوق الإنسان التي تبادر إلى التنديد باعتقال أي مواطن في قرية في أقصى الشمال أو الجنوب بعد ساعات من حدوث الاعتقال.
هذا الوعي بتغير الظروف هو الخطوة الأولى نحو كسر حاجز الخوف الرهيب الذي يجثم على صدور السوريين منذ سنوات عديدة، وقد بدأت به نخبة من المثقفين عبر الاعتصامات التي تتم في المناسبات المختلفة، والتي غالباً ما يتم تأديب المشاركين فيها، إلا أن صعوبة التعامل معهم بنفس القسوة السابقة شجعت على زيادة العدد عاماً بعد عام، والمطلوب هو إيصال هذه الحقيقة (التي يراها الكثيرون بديهية) إلى أكبر عدد ممكن من أبناء الشعب السوري.
غني عن القول أن كسر حاجز الخوف يتطلب جرأة وتضحيات كثيرة، لكن بعد انكساره يصبح التعامل مع بقية المعوقات – على أهميتها - أمراً أكثر سهولة وأسرع إنجازاً، ويصبح بإمكاننا أن نحلم يوماً بسورية ديمقراطية.


نشرت عام 2006 في موقع الشفاف ومواقع أخرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق