الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

في وداع جدتي


استيقظت على رنين الهاتف، لم يكن الوقت مبكراً لكن نوم رمضان يكون بعد الفجر دائماً، لم أستطع الرد قبل انتهاء الاتصال، ورأيت أن المتصل والدتي، قبل أن أتصل بها وصلتني رسالة أخي، توفيت جدتك وأمي مضطربة جداً، تعال بسرعة.
لم يكن الخبر مفاجئاً، فحالتها الصحية متدهورة منذ فترة ليست بالقصيرة، وذاكرتها التي تلاشت تقريباً في سنواتها الأخيرة لم تعد تسعفها حتى بالكلمات العادية، قفزت إلى ذهني فوراً آخر مرة التقيتها بها، قبل يومين من وفاتها، بدت يومها نشيطة على غير المعتاد، كلمتني وطلبت مني الجلوس، بعاميتها الحلبية المحببة (بروك)، قالت لي وهي تجذبني من قميصي بشدة لا تتناسب مع ضعفها الذي تعاني منه خلال الشهور الأخيرة.
جلست أمامها نتحدث، أو أتحدث وهي تنظر لي، ثم تحاول القيام، نقلتها من الكرسي المتحرك إلى الكنبة لتجلس بين ابن خالي وبيني، لتعود وتطلب الانتقال إلى كرسيها، حينها خطر ببالي أنها صحوة الموت.. ولم أقل شيئاً.
وصلت إلى بيت والدتي لأشاهدها مستلقية على جانبها الأيمن، على طرف السرير كما تعودت أن تنام، هادئة كما هي دائماً، ووالدتي تبكي لأنها لم تشعر بها حين توفيت.. رحمها الله، ماتت بهدوء، غادرت بخفة دون أن تثقل على أحد، كما عاشت حياتها كلها تحاول عدم الإثقال.
إجراءات الغسل، الصلاة، الدفن، كلها تمت بسرعة وهدوء، لم تثقل علينا أبداً، أكثر ما أثقلني كان الحزن الذي يحفر عميقاً .. عميقاً في القلب .. ماتت أم زهير.
بيني وبين جدتي أم زهير قصة طويلة، هي الجدة الوحيدة التي أعرفها، فجدتي لوالدي توفيت قبل أن أولد، وهي الأم الثانية التي أعرفها، فبيتنا القريب من بيتها بحلب، ووظيفة والدتي، جعلتها ترعاني خلال وجود والدتي في المدرسة، فنشأت كأصغر أبنائها، مدللاً بين أخوالي وخالاتي.
لم أستطع رثاءها شعراً، ولا أظنني سأستطيع، فحزني عليها أكبر من الكلمات، بعد رحيلها أمضيت ليالٍ أستعيد ذكرياتي معها، لا أذكر أنها ضربتني يوماً، ولا أستطيع تذكر تعنيفها أو غضبها علي، لا أذكرها إلا ضاحكة .. ضاحكة لي إن قلت لها شيئاً طريفاً، أو فعلت ما يعجبها، أو ضاحكة مني حين أسأل سؤالاً ساذجاً لا تريد الإجابة عليه.
في حلب كانت أجمل ذكرياتي مع جدتي، ذكريات امتدت عبر ربع قرن، تبدأ بها مستندة على كتفي –وأنا في العاشرة- ونحن نصعد الطريق القصير من (المؤسسة التعاونية) نتقاسم حمل الأغراض، بعد جولة قامت بها لتفقد بيت خالي الذي لا يزال في مرحلة البناء، وزيارة خالتي التي تسكن قريباً، لتختمها بشراء التموين، والمشي عائدين للبيت كي نتعشى في (القبو).  
وفي حلب أيضاً، بعد خمسة وعشرين سنة وفي آخر زيارة لي قبل أن يحول بيننا الأمن السياسي، أخذتها لتقضي عدداً من مشاويرها، ولنمر في ختامها على (سوق الهال) لتشتري ما تطبخه لنا كي تدلل عائلتي الصغيرة، مستندة على عكازها بيد، وإلى يدي باليد الأخرى، بهمة لا تعرف الكلل وهي التي تجاوزت الخامسة والثمانين آنذاك.
بين هذين المشوارين ذكريات متناثرة لا تمحى، أذكرها ليلاً حين ننام معها في غرفة الجلوس بالصيف، بعد أن تطمئن إلى أننا في أماكننا تبدأ في الدعاء، لم تكن جدتي كثيرة العبادة، لكنها كانت تعرف مقدار رحمة الله، علاقتها بخالقها علاقة صوفية نادرة، تحدثه وتدعوه كأنها تراه، لا تكثر من الكلام لكنها تدعو على مبدأ (علمك بحالي يغنيك عن سؤالي)، فتبدأ دعاءها بالنداء: إلهي، وليداتي ووليدات وليداتي. مكتفية بهذا (الجامع المانع) بالسؤال لهم كلهم، ثم تبدأ تعداد من يعاني هماً من أبنائها واحداً واحداً، تدعو لكل منهم بما يهمه ليلتها، أو ما تشعر أنه يهمه، فإذا وصلت إلى ابنها المغيب في سجون النظام انقلب الدعاء إلى عتاب لله القريب الذي تحسه قريباً منها، فتسأله بعتاب: يا ربي، ما حاجته جمال؟ (أي ألم يكفه حتى الآن)؟ يا رب، خليني أفرح بأولاده قبل ما أموت. واستجاب لها الله ففرحت برؤية أولاده قبل موتها.
كان عشقها الدائم زرع الحديقة، تعتني بأشجارها، تسقيها، تعرش الياسمينة كي تنشر عبقها، وتجمعنا لنساعدها في قطف الزيتون حين يحين وقته. لم تحنّ لشيء خلال سنوات الاغتراب مثل حنينها لحديقة بيتها وزرعه، وما كان يؤلمها شيء مثل ألمها لرؤية نبتة يابسة.
كانت الرحمة في قلبها أصيلة عميقة الجذور، لا مصطنعة أو مكتسبة، سواء رحمتها بالقطط الشاردة الجائعة، أو سؤالها الدائم لبناتها وحفيداتها عندما يجلسون للطعام: هل أكلت الصانعات؟ (تعني السؤال عن الخادمات الموجودات، فدوماً يجب أن يوضع نصيبهن من الأكل قبل جلوس الضيوف).
وكما رحمتها، كذلك كان كرمها، أكبر فرحة لها كانت عندما يجتمع الضيوف في حديقة البيت، وعندما كبرنا، كنت لا أخطئ نظرة السعادة في عينيها عندما أدعو ضيوفاً بوجودها، حتى وهي تؤنبني على تبذيري، كانت الكلمات غير صادقة، ونظرة الرضا صادقة.
صاحبة همة ندر مثيلها، تقوم من مكانها على المائدة لتتناول قطعة الخبز البعيدة عنها، ولا تطلب من أحد مناولتها، كانت في التسعين عندما وصلت متأخراً لبيت خالي وقد اجتمع فيه أبناؤها وأحفادها، أجلستني بجانبها وسألتني: إيش أسكب لك؟ أجبتها ممازحاً: تشكيلة فطاير. لكنني ندمت على المزحة، وأمسكت بها بالكاد وهي تستند على عصاها وتهم بالقيام كي تسكب لي ما آكله!
رحلت أم زهير، بهدوء لم تثقل فيه على أحد، خفيفة كما كان وجودها دوماً، لكنها خلفت في أنفسنا فراغاً كبيراً لا يتناسب مع جسدها الضئيل، فراغاً لن يملأه يوماً أحد بعدها، ورغم أنها تجاوزت التسعين، رغم مرضها الذي طال، رغم نسيانها لمعظمنا –إن لم يكن كلنا- لم يكن رحيلها سهلاً، بل كان الحزن كبيراً كما كان حضورها في حياتنا كبيراً.
رحمك الله يا جدة، وأجزل لك الثواب على ما قدمت، وتجاوز عن سيئاتك، وعاملك بحسن ظنك به، وأفاض عليك من كرمه وجوده ولطفه وإحسانه في مستقر رحمته.

هناك تعليقان (2):

  1. رحمها الله وغفر لها و رزقها الفردوس الأعلى وجمع أحبائها بها _ بعد العمر الطويل المبارك_ بمستقر رحمته في جنات النعيم يارب

    ردحذف
  2. رحمك الله ياجدتي وأسكنك فسيح جناتك نحن أيضا كانت لنا معها علاقة خاصة في الثمانينات بحكم سكننا القريب منها وذكريات شراء الخضار والمواد وكم كانت تمسكني على طعام عندها وعندما أجد عندها ضيوفا تقول هذا ابن بنتي ....الله يرحمك ويحسن إليك جدتي الصابرة المكافحة

    ردحذف