الثلاثاء، 13 سبتمبر 2016

الأزمة في قيادة العمل غير الربحي

المتتبع لحالة المنظمات غير الربحية في المنطقة العربية خصوصاً والدول النامية عموماً يجدها تعاني من مشكلات عديدة تعيق عملها، ليست بالضرورة مشكلات مالية، بل تتعلق بشكل أكبر بالعامل البشري وأساليب الإدارة، مما ينعكس سلباً على قدرة هذه المنظمات على إحداث الأثر المطلوب منها في مجتمعاتها.
لقد عانى العمل في القطاع غير الربحي لفترة طويلة من ارتكازه على ثقافة (التطوع) وابتعاده عن المهنية المطلوبة لإنجاح أي أعمال، وهو ما انعكس على ضعف الميزانيات المخصصة للتشغيل عموماً، حيث كانت معظم القيادات العاملة فيه من المتطوعين الذين يقبلون بعوائد مالية لا تتناسب مع مؤهلاتهم من باب (عمل الخير) بينما كانت الكوادر الميدانية والموظفين من الفئات ذات التأهيل الضعيف، التي تقبل بالعوائد المالية المتواضعة التي يوفرها هذا القطاع.
ومع تزايد الاهتمام بالعمل التطوعي بشكل عام، واتجاه كثير من المؤسسات المانحة إلى إصدار أدلة تساهم في حوكمة العمل ومأسسته، وتوفير أنواع من التدريب المتخصص للعاملين في المنظمات غير الربحية، بدأت النظرة إلى طريقة إدارة العمل التطوعي تختلف قليلاُ إلا أن النتائج الملموسة لا تزال دون المستوى المأمول من هذه المنظمات، نتيجة لعوامل كثيرة، لعل أهمها القيادات العاملة في القطاع غير الربحي.
من خلال العمل مع عدة منظمات غير ربحية في منطقة الخليج، لمسنا تشابهاً في نمط القيادة في هذه المنظمات، حيث يرتكز العمل بالدرجة الأولى على شخص المدير العام أو الأمين العام الذي يتم اختياره من مجلس الإدارة بناء على مؤهلاته ومعرفة أعضاء مجلس الإدارة (أو بعضهم) به، وهو المسؤول عن اختيار فريقه.
نتيجة لترسخ قناعة بأن العمل غير الربحي يجب أن يكون مقتصدا في النفقات التشغيلية، ومتواضعاً في المزايا التي يقدمها لموظفيه، يلجأ المدير العام إلى توظيف أشخاص بكفاءات متوسطة ولا يتم تدريبهم أو تطويرهم خلال فترة وجودهم، مما يشكل عائقاً أمام الترقيات وتفويض المسؤوليات، وتبقى المنظمة ذات هيكل مسطح (Flat organization) يتلقى جميع العاملين فيها تقريباً مهامهم من المدير العام.
وحتى عندما حاولت بعض المؤسسات غير الربحية استقطاب كفاءات من قطاعات أخرى (مدير استثمار من القطاع المصرفي مثلاً) كانت الإجابة بالرفض رغم العائد المادي المغري، لأن الأشخاص الذين تم عرض الوظيفة عليهم لم يجدوا في المنظمة مستقبلاً مهنياً واضحاً، واعتبروه انتحاراً على الصعيد المهني في مقابل عائد مادي غير مضمون الاستمرار.
من الأمور المبشرة بالخير أن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية قد تنبهت لهذه الإشكالية في هذا القطاع الهام فركزت على حلها ضمن هدفين من أهداف الوزارة الإستراتيجية للخمس سنوات القادمة، حيث نص الهدف الثاني على "بناء قدرات الجهات العاملة في القطاع الثالث وحوكمتها"، واشتملت مؤشرات قياس الأداء لهذا الهدف على مؤشرين يعالجان إشكالية نقص الكفاءات القيادية بشكل مباشر هما: "عدد الوظائف الممهننة في القطاع الثالث" و "نسبة المؤهلين من العاملين في القطاع الثالث في الوظائف الرئيسية".
كما نص الهدف الإستراتيجي الخامس للوزارة على " تمكين العمل التطوعي" واشتملت مؤشرات قياس الأداء على زيادة عدد المتطوعين في المنظمات غير الربحية بما يقارب عشرة أضعاف عددهم الحالي (من 35 ألف حالياً إلى 300 ألف بنهاية 2020) ولا شك أن تحقيق هذا الهدف الطموح يستدعي تحسين البنية الإدارية للمنظمات غير الربحية وتحقيق (طفرة) شاملة فيها كي تتمكن من استقطاب هذا العدد من المتطوعين وتوظفهم في أعمالها غير الربحية بشكل فعال.
من المهم في إطار السعي إلى تمكين المنظمات غير الربحية وتحسين بيئة العمل فيها الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي حقق العمل غير الربحي فيها تقدماً كبيراً مقارنة بمثيله في الدول النامية، فعلى سبيل المثال، تعمل في الولايات المتحدة حالياً ما يقارب المليون ونصف مؤسسة غير ربحية (حسب تقدير مكتب حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأمريكية) أي ما يعادل مؤسسة غير ربحية لكل 213 شخصاً من السكان، مقارنة بألف منظمة غير ربحية تعمل في المملكة العربية السعودية (حسب دراسة المركز الدولي للأبحاث والدراسات "مداد") وهو ما يوازي مؤسسة غير ربحية لكل 31 ألفاً من السكان.
ومع هذا التقدم الكبير الذي حققه العمل في المنظمات غير الربحية في الولايات المتحدة، إلا أن المشاكل المتعلقة بقيادة العمل تبدو مشابهة لما يواجهه العمل التطوعي في المملكة، فقد نشرت مجلة هارفرد للأعمال (هارفرد بزنس ريفيو) في ديسمبر 2015 مقالة تتحدث عن أهمية تطوير الكفاءات في العمل التطوعي استعرضت نتائج دراسة أجرتها مجموعة بريدج سبان عن المستويات القيادية في العمل التطوعي شملت مقابلات مع حوالي 400 موظف قيادي (C-Suite) في العمل التطوعي تحدثوا خلالها عن أهم أسباب تركهم العمل في المنظمات التطوعية.
الدافع لإجراء الدراسة كان الإحصائيات التي تشير إلى أن ما يقارب نصف شاغلي المناصب القيادية في المنظمات التطوعية إما تركوا أعمالهم خلال السنة السابقة للدراسة أو يخططون لترك منظماتهم خلال السنة أو السنتين التالية.
وعندما عملت المنظمات على إحلال قيادات جديدة مكان من غادروا مواقعهم، كان نصيب موظفي نفس المنظمات الذين ترقوا لشغل مناصب قيادية حوالي 30%، بينما جاء 44% من منظمات تطوعية أخرى، مما يعني أن حوالي ربع المناصب الشاغرة فقط نجح في استقطاب قيادات من خارج العمل التطوعي.
هذه النتائج تعطي مؤشراً واضحاً عن أزمة القيادة في العمل التطوعي في الولايات المتحدة، حيث أن نصف القيادات يتم تدويرها بين المنظمات، مما يرفع من التكلفة ويؤسس لثقافة التنافس بين المنظمات عوض تنمية قيادات جديدة، أو استقطاب كفاءات من خارج المجال التطوعي تنقل خبرات ورؤى تطويرية جديدة، وهي من أهم احتياجات تنمية العمل التطوعي.
ولدى سؤال المستقيلين من المؤسسات التطوعية عن أسباب ترك العمل، جاءت قلة العوائد المادية في المرتبة الأولى بنسبة تصل إلى 57%، بينما ذكر كثير من المستقيلين سبباً إضافياً هو غياب ثقافة التطوير الإداري، والذي حل ثانياً بحصوله على حوالي 50% من الإجابات، وتفاوتت النسب للسببين الأخيرين في القائمة وهما ضعف احتمالات الترقية مستقبلاً بسبب وجود هيكل تنظيمي قليل المستويات (مسطح)، وأخيراً عدم وجود القدرة والتحفيز على التطور.
أما المنظمات التي استطاعت أن تجد الحلول المناسبة للمحافظة على الكفاءات وتطويرها، واستقطاب القيادات للعمل فيها، فقد تميزت بأمرين مهمين، الأول: بناء هيكل تنظيمي ذي مستويات متعددة وتخصصات مختلفة يتيح المجال لترقية العاملين بناء على تحسن قدراتهم وفق خطة تطوير مهني واضحة (Career path)، والثاني: بناء برامج تطوير الكفاءات للموظفين تناسب تطلعاتهم ورغباتهم في التطور المهني وليس فقط الوظيفي.
ومع عدم وصولنا إلى دراسات تتناول نفس الموضوع في المنطقة، إلا أنه من المرجح أن نجد نفس المشكلات في المنظمات العاملة في المملكة، وبالتالي قد يكون من المناسب الإعداد للتعامل مع هذه المشكلة ضمن سياق الحوكمة وتمكين العمل التطوعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق