السبت، 26 سبتمبر 2015

رسالة من فلسطيني إلى لاجئ سوري

للأسف لم أقرأها إلا اليوم.. بعد أن أصبح كل ما (تنبأ) به الكاتب حقيقة واقعة.. شاركني بها صديق ورأيت أنها تستحق الحفظ.
الكاتب هو إبراهيم جابر، وهي منشورة على صفحته على فيسبوك بتاريخ30 يونيو 2011  !!

قد تُضيعك أمّك في الحقول "التركية"، وسيكون مُضحكًا أن يقول لاجئ ـ في معرِض حديثه لاحقًا ـ أنه قد ضاع!
وحده الذي كان يعرف وجهته، هو الذي يضيعُ يا صديقي، وأنت وجهتك كانت مُجرّد النجاة من الموت، وها أنت لم تمت على كل الأحوال!
ولا تَخف، فكلّ شيءٍ في البيت، هناك، سيظلّ على حالِه، أواني المطبخ، ألعاب الأولاد، الشجرة العاقر خلف النافذة.. كلّ شيءٍ سيظلّ على حالِه، لكن عليك بدءًا من هذا الصباح أن تعتاد أشياءك الجديدة: أنت الآن رقمٌ في سجلات اللاجئين، وفي نشرات الأخبار، وفي اجتماعات اللجان ومساعي الوفود، وفي قصائد الشعراء الذين يستفيدون من قتلى المعارك أكثر مما يستفيد عُمّال المقابر!
ستكون الخيمة مزعجة في الليلة الأولى، ثم في السنة الأولى، بعد ذلك ستصير ودودةً كواحدٍ من العائلة، لكن حاذر أن تقع في حبها، كما فعلنا!
لا تبتهج إن رأيتهم يقيمون لكم مركزًا صحيًّا، أو مدرسةً ابتدائية، هذا خبرٌ غير سارّ أبدًا!
وإيّاك أن تتورط بمطالبات غبية مثل بناء بيوت بسيطة بدل الخيام، أو بخطوط مياه وكهرباء، ذلك يعني أنك بدأت تتعايش.. وهنا مَقتلُ اللاجئ، وهنا أيضًا مَقبرته!
انتبه دائماً أن لا تترك غضبك في الخيمة حين تخرج، كُن غاضباً دائما، غضبك هو الذي سيجعلك حيّا، غضبك مَعدات بقائك، وإن استرحتَ يومًا فهذا يعني أنك لم تعد تلهثُ باتجاه "العودة"!
ولا تُدرّب أولادك على الصبر، الصبر حيلة العاجز، وذريعة مَن تَخلّى، واللاجئ يموت إن لم ينظر خلفه مرّتين في اللحظة الواحدة.
أنت لستَ ابن "هناك"، تَذَكّر هذا دائما، أنت لك "هنا" جميل ولا يُخان .. لا تنم ليلةً دون أن تُعدّد محاسنه لأطفالك، واقرأ عليهم كيف مات الناس، وكيف ذُبحوا على شاشات التلفزيون لأنهم لم يُصفّقوا للخِطاب، وقل لهم إنك تنام بين أشجارٍ غريبة، لأنك لم تشأ أن تُلدغَ من جُحر واحدٍ مَرّتين!
سيبيعك الناس لبعضهم، تلك هواية السياسيين، وسيجيئك المتضامنون من كل البلاد، ستصير أنتَ شعارهم الانتخابي، ويتقربون بك إلى الله، وستزداد همّة الناس في تفقّدك في "رمضان"، وفي الأعياد والمناسبات الدينية!
والبعض سيصوّر أطفالك منهكين وجائعين، لمجرد أن يحصل على مكافأة من رئيس التحرير، أو مدير المحطّة، وزوجتك النائمة الآن في الظلّ قد تكون موضوعًا لصورةٍ تفوز بجائزةٍ دولية!
تلك حياتك الجديدة: سينشب حبٌّ في الخيام، ويولد رَسّامٌ موهوب، وسيولد أيضًا عميلٌ وعاهرة، وسيولد فدائي مهنته أن يصنع (من جزمةٍ أُفقا!)
ستتعلّمون لغات جديدة، ومشاعر جديدة، وستنشأ علاقةٌ مُلتبسةٌ مع المنفى، وقد تشعر في ليلةٍ ماكرةٍ بأنه لا ينقصهُ شيء ليكون كافياً كوطن.. لكنك سرعان ما ستنتبه: الأشجار هنا لا تخضرّ كما يجب، والملح ليس مالحا، والذين ماتوا لن يغفروا لي، وتعود تنظر للوراء مرّتين!
وهنا سيتقدمُ ابنك الذي صار رجلاً دون أن تنتبه ليحمل عنك الذاكرة.. ليحمل حُلمك الذي أنقض ظهرك!
ربما يا صديقي أن الأمر سيبدو مُعقّدًا في البداية، لكنّه واضحٌ: أنت "هناك" لأن الـ"هنا" متوعكة، وقد يطول غيابك ليلتين، لكنك لستَ في رحلةٍ للبحث عن هويّة جديدة، ولن تُفكّر حتماً في مدّ سلك كهرباء إلى الخيمة.. تلك خطيئتنا نحن، حين قُلنا: الخيمة ضيّقةٌ ونحتاج خيمتين إضافيتين!
يا صديقي لا تُفكّر في الأمر إلا وأنت تنظرُ خلفك، وتذكر أيضًا أنك أدرتَ خدّك الأيسر مرّتين، أيّ خدّ ستدير الآن؟!
...
واسمعني، فأنا أفوقك خبرة بـ63 عامًا في هذه "المهنة": لا تلتقط الصور التذكارية مع سفراء النوايا الحسنة، ولا تشكو لهم حرارة الطقس، أو من الحصى في الخبز، وحاذر أن تطالب بخيمةٍ أفضل، ليس ثمة خيمة أفضل من خيمة، وقل لهم إن مشكلتك ليست
عاطفية، ولن تحلّها زيارة "أنجلينا جولي.


الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

في وداع جدتي


استيقظت على رنين الهاتف، لم يكن الوقت مبكراً لكن نوم رمضان يكون بعد الفجر دائماً، لم أستطع الرد قبل انتهاء الاتصال، ورأيت أن المتصل والدتي، قبل أن أتصل بها وصلتني رسالة أخي، توفيت جدتك وأمي مضطربة جداً، تعال بسرعة.
لم يكن الخبر مفاجئاً، فحالتها الصحية متدهورة منذ فترة ليست بالقصيرة، وذاكرتها التي تلاشت تقريباً في سنواتها الأخيرة لم تعد تسعفها حتى بالكلمات العادية، قفزت إلى ذهني فوراً آخر مرة التقيتها بها، قبل يومين من وفاتها، بدت يومها نشيطة على غير المعتاد، كلمتني وطلبت مني الجلوس، بعاميتها الحلبية المحببة (بروك)، قالت لي وهي تجذبني من قميصي بشدة لا تتناسب مع ضعفها الذي تعاني منه خلال الشهور الأخيرة.
جلست أمامها نتحدث، أو أتحدث وهي تنظر لي، ثم تحاول القيام، نقلتها من الكرسي المتحرك إلى الكنبة لتجلس بين ابن خالي وبيني، لتعود وتطلب الانتقال إلى كرسيها، حينها خطر ببالي أنها صحوة الموت.. ولم أقل شيئاً.
وصلت إلى بيت والدتي لأشاهدها مستلقية على جانبها الأيمن، على طرف السرير كما تعودت أن تنام، هادئة كما هي دائماً، ووالدتي تبكي لأنها لم تشعر بها حين توفيت.. رحمها الله، ماتت بهدوء، غادرت بخفة دون أن تثقل على أحد، كما عاشت حياتها كلها تحاول عدم الإثقال.
إجراءات الغسل، الصلاة، الدفن، كلها تمت بسرعة وهدوء، لم تثقل علينا أبداً، أكثر ما أثقلني كان الحزن الذي يحفر عميقاً .. عميقاً في القلب .. ماتت أم زهير.
بيني وبين جدتي أم زهير قصة طويلة، هي الجدة الوحيدة التي أعرفها، فجدتي لوالدي توفيت قبل أن أولد، وهي الأم الثانية التي أعرفها، فبيتنا القريب من بيتها بحلب، ووظيفة والدتي، جعلتها ترعاني خلال وجود والدتي في المدرسة، فنشأت كأصغر أبنائها، مدللاً بين أخوالي وخالاتي.
لم أستطع رثاءها شعراً، ولا أظنني سأستطيع، فحزني عليها أكبر من الكلمات، بعد رحيلها أمضيت ليالٍ أستعيد ذكرياتي معها، لا أذكر أنها ضربتني يوماً، ولا أستطيع تذكر تعنيفها أو غضبها علي، لا أذكرها إلا ضاحكة .. ضاحكة لي إن قلت لها شيئاً طريفاً، أو فعلت ما يعجبها، أو ضاحكة مني حين أسأل سؤالاً ساذجاً لا تريد الإجابة عليه.
في حلب كانت أجمل ذكرياتي مع جدتي، ذكريات امتدت عبر ربع قرن، تبدأ بها مستندة على كتفي –وأنا في العاشرة- ونحن نصعد الطريق القصير من (المؤسسة التعاونية) نتقاسم حمل الأغراض، بعد جولة قامت بها لتفقد بيت خالي الذي لا يزال في مرحلة البناء، وزيارة خالتي التي تسكن قريباً، لتختمها بشراء التموين، والمشي عائدين للبيت كي نتعشى في (القبو).  
وفي حلب أيضاً، بعد خمسة وعشرين سنة وفي آخر زيارة لي قبل أن يحول بيننا الأمن السياسي، أخذتها لتقضي عدداً من مشاويرها، ولنمر في ختامها على (سوق الهال) لتشتري ما تطبخه لنا كي تدلل عائلتي الصغيرة، مستندة على عكازها بيد، وإلى يدي باليد الأخرى، بهمة لا تعرف الكلل وهي التي تجاوزت الخامسة والثمانين آنذاك.
بين هذين المشوارين ذكريات متناثرة لا تمحى، أذكرها ليلاً حين ننام معها في غرفة الجلوس بالصيف، بعد أن تطمئن إلى أننا في أماكننا تبدأ في الدعاء، لم تكن جدتي كثيرة العبادة، لكنها كانت تعرف مقدار رحمة الله، علاقتها بخالقها علاقة صوفية نادرة، تحدثه وتدعوه كأنها تراه، لا تكثر من الكلام لكنها تدعو على مبدأ (علمك بحالي يغنيك عن سؤالي)، فتبدأ دعاءها بالنداء: إلهي، وليداتي ووليدات وليداتي. مكتفية بهذا (الجامع المانع) بالسؤال لهم كلهم، ثم تبدأ تعداد من يعاني هماً من أبنائها واحداً واحداً، تدعو لكل منهم بما يهمه ليلتها، أو ما تشعر أنه يهمه، فإذا وصلت إلى ابنها المغيب في سجون النظام انقلب الدعاء إلى عتاب لله القريب الذي تحسه قريباً منها، فتسأله بعتاب: يا ربي، ما حاجته جمال؟ (أي ألم يكفه حتى الآن)؟ يا رب، خليني أفرح بأولاده قبل ما أموت. واستجاب لها الله ففرحت برؤية أولاده قبل موتها.
كان عشقها الدائم زرع الحديقة، تعتني بأشجارها، تسقيها، تعرش الياسمينة كي تنشر عبقها، وتجمعنا لنساعدها في قطف الزيتون حين يحين وقته. لم تحنّ لشيء خلال سنوات الاغتراب مثل حنينها لحديقة بيتها وزرعه، وما كان يؤلمها شيء مثل ألمها لرؤية نبتة يابسة.
كانت الرحمة في قلبها أصيلة عميقة الجذور، لا مصطنعة أو مكتسبة، سواء رحمتها بالقطط الشاردة الجائعة، أو سؤالها الدائم لبناتها وحفيداتها عندما يجلسون للطعام: هل أكلت الصانعات؟ (تعني السؤال عن الخادمات الموجودات، فدوماً يجب أن يوضع نصيبهن من الأكل قبل جلوس الضيوف).
وكما رحمتها، كذلك كان كرمها، أكبر فرحة لها كانت عندما يجتمع الضيوف في حديقة البيت، وعندما كبرنا، كنت لا أخطئ نظرة السعادة في عينيها عندما أدعو ضيوفاً بوجودها، حتى وهي تؤنبني على تبذيري، كانت الكلمات غير صادقة، ونظرة الرضا صادقة.
صاحبة همة ندر مثيلها، تقوم من مكانها على المائدة لتتناول قطعة الخبز البعيدة عنها، ولا تطلب من أحد مناولتها، كانت في التسعين عندما وصلت متأخراً لبيت خالي وقد اجتمع فيه أبناؤها وأحفادها، أجلستني بجانبها وسألتني: إيش أسكب لك؟ أجبتها ممازحاً: تشكيلة فطاير. لكنني ندمت على المزحة، وأمسكت بها بالكاد وهي تستند على عصاها وتهم بالقيام كي تسكب لي ما آكله!
رحلت أم زهير، بهدوء لم تثقل فيه على أحد، خفيفة كما كان وجودها دوماً، لكنها خلفت في أنفسنا فراغاً كبيراً لا يتناسب مع جسدها الضئيل، فراغاً لن يملأه يوماً أحد بعدها، ورغم أنها تجاوزت التسعين، رغم مرضها الذي طال، رغم نسيانها لمعظمنا –إن لم يكن كلنا- لم يكن رحيلها سهلاً، بل كان الحزن كبيراً كما كان حضورها في حياتنا كبيراً.
رحمك الله يا جدة، وأجزل لك الثواب على ما قدمت، وتجاوز عن سيئاتك، وعاملك بحسن ظنك به، وأفاض عليك من كرمه وجوده ولطفه وإحسانه في مستقر رحمته.