الجمعة، 30 نوفمبر 2012

شباب حلب

اتصلت به بعد أن ازداد القصف على عندان، ولما رد على الهاتف سألته مازحاً: هل استشهدت أم ليس بعد؟
أجابني بحزن: يبدو أنني لا أستحق الشهادة بعد.
هكذا بدأ أبو هريرة حديثه وهو يجلس بجانبي. ابن الحادية والعشرين عاماً الذي كان يدرس الهندسة وتركها للالتحاق بالثورة شاب يميزه عن أقرانه طوله الفارع ونحوله الشديد.
منذ وصلت إلى مقر المجلس لاحظت هذا الشاب المرح الذي يمازح الجميع، ويحبه كل الموجودين. أحببت أدبه الجم حين اعتذر لي عن الضجة التي أحدثها مع أصحابه الشباب قبل النوم وأزعجت كهلاً مثلي تعود الهدوء.
غبت يومين عنه وعدت لأجده شخصاً آخر كئيباً طول الوقت. ظننت أن أحداً أزعجه فسألته عن ما به؟ أجابني أن أبا الزبير قد استشهد. أكمل والدموع تترقرق في عينيه: هو أصغر مني، لم يكمل الثامنة عشرة بعد، ولكنه استشهد.
تركني ومضى، وبقي لعدة أيام يتجنب الحديث مع الجميع، مكتفياً بحزنه وصمته.
بالأمس نام ساعتين قبل الفجر، وبعد انتهاء الصلاة انتبه إلى أنني لم أذهب للنوم كما فعل بقية الشباب فسألني إن كنت أريد مشاركته القهوة. سألته:
-
ألن تعود إلى النوم؟ لم تنم كفايتك.
-
لا أستطيع النوم، لا يغيب أبو الزبير عن بالي.
وجدت الفرصة سانحة لأخفف عنه قليلاً فنحيت أوراقي وحاسبي جانباً واستمعت إليه يحكي لي عن أبي الزبير، الشاب البطل الذي وافق حديثنا عنه يوم يكمل الثامنة عشرة من عمره، لو كان حياً.
أحاول أن أنقل قصة أبي الزبير كما حكاها لي أبو هريرة، إذ بدأها قائلاً:
تعرفتُ إليه على الإنترنت، من خلال تنسيقية تعمل على تجميع ثوار حلب لتحقيق الحراك. كنا قد شعرنا أننا بحاجة لرفع مستوى التنسيق بيننا واللقاء وجهاً لوجه. بالطبع كان احتمالاً قائماً أن يكون مدسوساً من المخابرات، لكنني قررت المخاطرة. وعدته في مكان عام يتيح لي الهرب لو شككت به، وما أن التقينا حتى أحسست بالاطمئنان، فقد كان فتى صغيراً واضح الصدق.
توطدت علاقتنا من خلال المشاركة في التظاهرات، ويوماً بعد يوم أصبحنا أقرب من الإخوة، كنا نتناوب العمل على إدارة غرف التنسيق على الإنترنت، ونتواصل مع الثوار ونتحرك بينهم. أصبحنا نقضي يومنا كله معاً، وذات يوم سألني أبي: لماذا تصاحب من هم أصغر منك ولا تصاحب من هم في سنك أو أكبر؟ لم أجبه. لم أقل له أن من هم في سني من طلبة الجامعة همهم السيارات والتعرف إلى صديقات، بينما أبو الزبير يتحدث عن تحرير سوريا من الطغيان والشهادة في سبيل الله.

وعندما بدأت الكتائب المسلحة في الظهور بالريف تعرفت إليهم وبدأت بالتدرب معهم، لكنني أخفيت الأمر عليه لخشيتي عليه وما أعرفه من اندفاعه. لكن سري لم يطل كتمانه لأنني أصبحت أختفي عنه، فاكتشف الأمر وسارع إلى الانخراط فيه.
لم يطل به الأمر حتى تدرب على كافة الأسلحة الموجودة بين يدي الثوار. وتلقب بأبي الزبير الشيشاني.
توقف أبو هريرة قليلاً ليريني صورته. أشار إلى جانبي رأسه حيث يبدو الشعر منحسراً وهو يقول: لم يكن كذلك دائماً، لكن أجهزة المخابرات الأسدية عندما اعتقلوه كانوا يشدونه من شعر رأسه على الطرفين حتى اقتلعوه من الجذور ولم ينبت بعدها.
ثم غير الشاشة ليريني محادثة محفوظة بين أبي الزبير وصديق مشترك لهما. كان الصديق يسأل أبا الزبير عن اسم الجبهة التي يرابط فيها، فيرفض أبو الزبير إخباره لحرصه على أمن الكتيبة. ثم يطلب أبو الزبير من صديقه أن ينصحه، فيمازحه الصديق لكنه يصر، ويطلب منه بشكل خاص أن يحدثه عن الرياء وكيف تكون النية خالصة!
دمعت عينا أبي هريرة وهو يخبرني كيف اتصل به زملاء أبي الزبير في الجبهة وأخبروه أنه أصيب إصابات قاتلة، وأنه يطلب رؤيته.
ذهبتُ إلى المستشفى ومعي أبو مصعب. سألنا عنه وعلمت من الأطباء أن شظايا قنبلة أصابت ظهره فكسرت ثلاث فقرات واستمرت منطلقة فخرجت من بطنه، وأنهم لا يملكون ما يفعلونه له.
وجدناه مسجى على ظهره وابتسم لما كلمناه. سألني وأنا أعانقه: ألم تترك الدخان بعد؟
أجبته أنني سأتركه إن شاء الله. تكلمنا معه وكان أحياناً يصيح من الألم فقال له أبو مصعب: تصبر يا أخي .. تخيل أنك قي الجنة. أغلق عينيه، وابتسم. سأله أبو مصعب: أتحس أنك في الجنة؟
أجاب بصعوبة: ليس بعد، ما زلت أشعر بشيء من الألم.
بقينا إلى جانبه حتى ما بعد الفجر حين أسلم روحه إلى بارئها مبتسماً مستبشراً ببيعه الذي بايع الله عليه، طلب الشهادة صادقاً فنالها إن شاء الله.


 

حين صمت أبو هريرة كانت الدموع تنحدر على وجهه، وعيناه مسمرتان على صورة أبي الزبير في الصفحة التي أنشأها أصحابه له.
 
قال لي بفخر: رفع أصحابنا في مصر صورته ولوحة باسمه في ميدان التحرير، لا أعلم شخصاً بعمره كان له هذا العدد من الإخوة المحبين.. رحمه الله.


الأحد، 18 نوفمبر 2012

وفي الثورة إحباط أيضاً

لن أكتب فقط عن الأشياء المبشرة والجميلة في ثورتنا.
عندي الكثير من القصص المؤلمة لكنني أحتفظ بها لما بعد النصر إن كُتِبَ لي أن أعيش لأشهده.
أشعر بالعجز والإحباط إلى أقصى درجة ..
ربما كان لسني دور مهم في هذا، فكل من حولي شباب صغار السن، منطلقون بحماسهم وعاطفتهم لتحرير بلدهم، وكلما واجهتهم مشكلة لجأوا إلى (عمو) المستشار القادم من خارج البلد لعله يملك من الحلول ما لا يستطيعون الإحاطة به.
لا يتخيل الشباب أن هذا العم الذي أبهرهم بالهياكل والخطط التي ساعد في وضعها سيكون أعجز منهم وأقل حيلة أمام البلاوي التي يشاهدونها.
بالأمس ذهب أعضاء المكتب الإغاثي إلى بستان القصر ليكلموا كتيبة من الجيش الحر اعتقلت أحد الشباب العاملين مع المكتب، وعادوا ليخبرونا أنه توفي ودُفن ليلاً.
 الأخ محمد الخالد من أحرار حمص كان يعمل مع الشباب في حلب منذ وقت طويل، وهو موضع ثقتهم جميعاً، لكن المجرمين الذين التحقوا بالجيش الحر لا يفهمون ولا يستحون. اعتقلوه بتهمة إخفاء الإغاثة وعدم توزيعها، وبدأوا بتعذيبه حتى توفي تحت التعذيب.
يسألني أحد الشباب الصغار: بماذا يختلف هؤلاء  عن مجرمي المخابرات وهم يستخدمون نفس الأساليب؟ هل يشفع لهم ما يدعونه من شك فيه؟
ولا أجد جواباً سوى أن الجريمة واحدة سواء كان المجرم من النظام أم يتسمى باسم الجيش الحر.
يعود ليسأل: فماذا نفعل إذاً؟
عجزت عن الجواب .. أأقول له خذ سلاحك وحاربهم؟
أليس هذا ما يريده النظام؟
النظام الذي زرع في جسم الجيش الحر أكثر من عشرة آلاف شبيح من أصل مائة وخمسين ألفاً كانوا مكلفين بقمع حلب كما اعترف أحد ضباط المخابرات  الذي استجوبه محام صديق يعمل كوكيل نيابة الآن.
أم أقول له: سيأتي دورهم بعد أن تتحرر البلد؟ وما يضمن له أنهم لن يقتلوه كما قتلوا صديقه بينما يحاول مساعدة المدنيين العزل؟
أنقذني من الإجابة نداء الشباب لنا لننزل إلى الملجأ بعد اقتراب القصف من الحي الذي نقيم فيه. نزلت معهم لكن تساؤلاتي مع نفسي لم تنقطع.. ما التالي؟
لم يتأخر الجواب كثيراً، فمشروع الإدارة المحلية مهدد بالتوقف بسبب التمويل. أول قطاع نريد البدء بتنظيفه ورفع القمامة التي تكاد تغمر شوارعه سوف يحتاج إلى ما يقارب المليون ليرة شهرياً، رغم أننا استطعنا بجهد جهيد توفير نصف الآليات التي نحتاجها من مختلف الألوية العاملة في القطاع.
كان المسؤول عن المشروع يوضح كل الخطوات التي اتخذها لتخفيض التكلفة قبل أن يسأل: ما الحل؟
لم أجد جواباً عندي.. فتشاغلت بأوراق بين يدي.
كانت أوراق ملف الأيتام .. أكثر من 2500 يتيم هم من وصلنا إليهم عبر معارف شخصيين أو خلال زيارات عارضة لمسؤولي الإغاثة إلى مختلف المناطق.
هذا يعني أننا إذا ما أجرينا المسح الذي نخطط له قد نصل إلى أربعة أضعاف هذا العدد ..
يا الله .. من أين نأتي بنصف مليون دولار شهرياً لكفالة هؤلاء الأيتام؟
تركت الغرفة وخرجت .. سمعت المسؤول عن المشتريات (أبو محمد) يخبر رئيسه أنه لم يجد خبزاً للعشاء. المخبز لم يعد فيه طحين، وكي يحضر الخبز سيشتريه بثلاثة أضعاف ثمنه.
كان الرئيس يقترح أن يشتريه، فالشباب يجب أن يأكلوا، وكان رد أبي محمد: نحن نملك ما نشتري به الخبز بهذا المبلغ، أما جيراننا الفقراء فلا يستطيعونه، ولا نستطيع نحن أن نطعمهم جميعاً، لذلك رأيت أن تجربوا الليلة معنى الجوع، لعلكم تستعجلون بحل مشكلة الخبز.
قمت صباحاً عازماً على الرجوع للرياض، فقد انتهت الفترة التي وعدت بها، ويبدو أنني لا أستطيع شيئاً. كلمني رئيس المجلس هاتفياً طالباً مني انتظار وصوله غداً لعقد اجتماع هام لتفعيل العمل، وأن أؤجل سفري يومين. وعدته أن أدرس الأمر ولم أعده أن أبقى.
كنت محرجاً منه وخائفاً أن أقع في إثم (التولي يوم الزحف) كما قال لي يوماً رئيس المكتب الشرعي، وفي نفس الوقت طغى علي اليأس من التغيير ووجدت المشاكل أكبر بكثير من طاقتي.
أخرجني من أفكاري صوت أبي محمد، المقاول الذي هجر عمله، رغم توفر العمل هذه الأيام في الريف الذي يعيد أهله ترميم بيوتهم بسبب الشتاء، وتفرغ لتلبية احتياجات الشباب، لأنه يريد أن (تخلص) كما يقول.
التفت إليه فطلب مني مرافقته: مشوار صغير أستاذ قبل ما تسافر، ضروري تروح تشوف هذا المنظر.
ذهبت معه، كان طوال الطريق يحدثني عن أنه لا يعرف ماذا يفعل في هذه الثورة، لذلك تفرغ لتوفير احتياجات الشباب الذين تصعب عليهم الحركة بحكم أنهم جميعاً ملاحقون من الأمن وعيونه.
وصلنا إلى أحد الأماكن التي هدمها القصف، جعلني أصور البناية التي انهارت تماماً بسبب القصف، ثم انطلق إلى مبنى تجاري لم يكتمل، وطلب مني النزول لمشاهدة الأسر التي لا تجد باباً تغلقه على نفسها، وتستر نفسها عن العيون والبرد ببطانية خلقة معلقة على حبل لا يتجاوز ارتفاعه متراً ونصف، بينما ظهر أقدامهم من تحتها وينسفها الهواء كلما هب.



قال لي أبو محمد: تعيش هنا عشرون عائلة، لا مأوى لهم سوى هذا المكان المفتوح، ولا يجدون خبز يومهم. إذا أردت أن تسافر فتذكر أنك تتركهم، والآلاف غيرهم، خلفك.
ختم أبو محمد كلامه ونحن في طريق العودة: يا أستاذ .. أنا لا أفهم ما تفعله، لكنني أرجو أن تستطيع المساعدة، أنا أساعد في ما أفهم به، وأنت عليك واجب المساعدة في ما تفهم فيه.

بقينا صامتين حتى وصلنا للمقر، أرجعت حقيبتي إلى المستودع، وطلبت من أبي محمد أن يذهب لإحضار مسؤول الإدارة المحلية كي نستكمل بناء المشروع لعل الله يوفقنا بمن يموله فينقذ آلاف الناس من أخطار القمامة المتراكمة.
تستمر الثورة، بنا أو بدوننا، لكن التخلف عن خدمتها الآن لمن يستطيع، ولو شيئاً بسيطاً، يُخشى منه أن ندخل في قوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) كما قال لي الشيخ عبد الله، صديقي وأخي الذي أنجبته الثورة.

الاثنين، 12 نوفمبر 2012

صباح الخير يا حلب

صباح الخير يا حلبُ

صباح النصر والتحرير

 بالتكبير يلتهبُ
صباح العزة الشماء

في الأوداج تضطربُ

صباح الثورة الغراء
قامت تغسل العارا
تردُّ البغيَ تدحضه
وتصلي خصمَها النارا

إذا ما قيلَ لي حلبٌ
يذوب بقلبي السكرْ
أغني باسمها طرباً
ومن أنسامها أسكرْ

صباح الخير يا بلداً
تحدى الظلم لم يركعْ
بحبل الله مرتبط
وحاشا يرهب المدفعْ

صباح الخير للثوار
في أرجائها انتفضوا
عن الأعراض قد ذادوا
وللحق السليب قضوا

صباح الخير لا تكفي
فداكِ القلب إذ أصبحْ
فداكِ الروح عاشقة
ثراك الطاهر الأملحْ


حلب  12/11/2012 م


الأحد، 11 نوفمبر 2012

زحمة يا دنيا

كان يوماً طويلاً جداً .. كله أولويات ، انتهينا من العمل الصباحي لنجلس بعد الظهر مع  ضباط الشرطة وأعضاء المكتب الأمني لاستكمال إنشاء جهاز الشرطة في حلب، وما كدنا ننتهي حتى بدأنا استكمال ترتيبات مكتب الإغاثة ومناقشة بعض المشاكل التشغيلية، فلما انتهي العمل وجدنا أن عدد الضيوف الكبير الذين زارونا اليوم من مختلف مناطق حلب، ولم يستطيعوا المغادرة بسبب خطورة التنقل الليلي تحت القصف، قد استنفد الفرشات المخصصة للنوم، ولا يوجد لنا مكان ننام فيه.
قررنا أن ننتظر قيام الإخوة لصلاة الفجر، عل بعضهم يقرر أن يقوم يتمارين الصباح ويتوفر لنا مكان. 
لا أذكر أنني تعرضت لمثلهذا الموقف من قبل، لكنني سعيد به رغم التعب.

السبت، 10 نوفمبر 2012

من تجارب الثورة: تبقى حلب درة الصناعة العربية

التقينا اليوم بقائد أحد الألوية المقاتلة في حلب، كان الللقاء بخصوص دور المجلس الانتقالي في ضبط التجاوزات، وتفعيل جهاز الشرطة المدنية الذي بدأ المجلس بإنشائه، وضمان حقوق الناس عبر تشغيل المحاكم بالتعاون مع المحامين الأحرار ومجلس القضاء الموحد،  وبعد اختتام اللقاء عرض علينا قائد اللواء قذيفة هاون مصنعة محلياً بأيدي شباب حلب.
وأخبرنا أنه بعد تجربتها أثبتت أنها أكثر دقة في إصابة الهدف وأعلى فعالية من القذائف التي يحصلون عليها من الخارج، والتي أكد أكثر من مصدر في الجيش الحر أنها يتم التلاعب بها كي لا تعطي النتيجة الطبيعية وتؤخر تحقيق نتائج حقيقية لصالح الجيش الحر بهدف استمرار النزيف السوري لوقت أطول.

كان الجميع مندهشين من الحرفية العالية ودقة الصناعة، إضافة إلى الحيل التي مارسها الشباب في الصناعة ليتغلبوا على بدائية الأدوات وندرة المواد الخام.

بشكل شخصي، أكثر ما شد انتباهي هو القدرة الهائلة لدى شعبنا على الإبداع متى ما توفر له مناخ الحرية الملائم، وكان لديه الحافز للإنتاج، هذا الشعب الذي عمل نظام البعث طيلة خمسين سنة على تدمير قدراته، وتهجير عقوله وكفاءات، وتحويله من منارة إبداع صناعي إلى شعب مستهلك خامل غارق في التوافه، وجاءت الثورة لتوقظه وتعيد إشعال فتيل إبداعه.

اختتمنا اللقاء بصورة لصناعة بلدنا في زمن الحرب، وكلنا ثقة أن هذا الشعب العظيم سوف يصنع في السلم ما يفوقها دقة وروعة وفائدة لبلده وأمته.



الخميس، 8 نوفمبر 2012

من تجارب الثورة: التخطيط الذكي

عقليات مبدعة

في استراحة بين ورشتي عمل حدثني أحد الإخوة الناشطين في حلب عن مدير فرن حكومي في ريف حلب كان يتوقع منذ بدايات الثورة بمعرفته الوثيقة بمدى إجرام النظام أن يلجأ الأسد وعبيده إلى تجويع الناس، وهذا ما فعلوه عبر قطع إمدادت الطحين والديزل اللازمة لتشغيل الأفران، واستهداف الأفران بالقصف وقتل البسطاء الذين ينتظرون دورهم للحصول على الخبز الذي قد يكون غذاء أسرهم الوحيد في ظل انعدام مصادر الدخل.
ما لفت انتباه صاحبي أنه في الوقت الذي عانت فيه معظم البلدات والقرى في الريف، والمناطق المحررة في مدينة حلب من أزمة في الخبز، كان هذا الفرن يوفر ما يكفي لسد حاجة بلدته، ويرسل مساعدات للقرى والبلدات القريبة.
سأله صاحبنا عن السر الذي يجعله قادراً على تشغيل فرنه وسط هذه الأزمة، فحصل منه على التفاصيل البسيطة، لكنها من نوع السهل الممتنع والتي تدل على الحس الإنساني والوطني الذي يتمتع به.
رأى الرجل من البداية أنه في موقعه سيفيد الناس أكثر من الالتحاق بالجيش الحر، وتوقع ما سيفعله النظام فبدأ بتخزين كل ما يستطيع الوصول إليه من طحين وديزل منذ بداية الثورة، بل وكان يحتال على التموين بما يستطيعه من حيل لزيادة الكميات التي يحصل عليها أيام الوفرة ويخزنها بعيداً عن الفرن، حتى تجمع عنده مخزون كبير تعامل معه بذكاء كي لا يتلف أو يتعرض للقصف، وبدأ باستخدامه عندما نفذ النظام سياسته القذرة.
في الأيام التي كان النظام يقصف بها المنطقة رفض إيقاف العمل في الفرن وتوعد من يتغيب من العمال بالفصل من عمله. كانوا يرجون منه التوقف كي لا يتعرض للموت، فيجيب بأن من كُتِب عليه الموت سيلحقه ولو على فراشه. 
تعرض فرنه للقصف عدة مرات فكان يرممه ويصلحه ويعيده للعمل. وقام بإعداد كوبونات يبيعها لأهل البلدة بعيداً عن الفرن ويرسل من يوزع لهم حصصهم الكافية ليومهم حسب عدد أفراد الأسرة دون الحاجة إلى تواجدهم أمام الفرن لحمايتهم من القصف. 
ولازال حتى اليوم يوفر الخبز لأهل بلدته ثم يلتفت لتحضير كميات إضافية يرسلها للمناطق التي تضررت أفرانها أو نفد مخزونها من المواد الأساسية.

ساق صاحبي هذه القصة للتدليل على قدرة أبناء سوريا على التعامل مع المشكلات بحلول مبتكرة متى توفرت النية الصادقة والثقة، وهو ما نحتاج إليه اليوم من الكيانات المختلفة العاملة على الأرض السورية: أن تتيح للمخلصين الابتكار والعمل لخدمة بلدهم بعد أن جعلهم النظام يعيشون خدماً في أرضهم طوال سنين.

نجوى

أعتذر لسوء التنسيق فأنا أستخدم جهازاً كفياً وفي أوقات متقطعة يتاح فيها الاتصال بالانترنت

اخلع رداء المترفين | والبس مسوح الزاهدين 
واطرق على باب الإله | ولُذْ بهِ فهو المعين 
بادر إذا هجع الأنام | لجنب رب العالمين
فاعرض ذنوبك كلها | واسكب دموع التائبين
وارفع أكف ضراعة | من بعد تعفير الجبين
لاهم يا رحمن يا | سندي وغوث الخائفين
ما خاب عبد قد رجاك | أيا مجيب السائلين
ها قد أتيتك مطرقاً | متذللاً صفر اليدين
ما حيلتي عمل به | أرجو جزاء الصالحين
كلا ولا أبديت يا | مولاي عزم المحسنين
لكنني يا سيدي | يا مفزعي في كل حين
لم أرجُ قطُّ سوى جنابك | يا أمان اللائذين
مولاي جئت بذلة | والقلب قطّعه الأنين
قدمتُ حسن الظن يا | أملي وحاشا أن تهين
عبداً تذلل في حماك | وأنت خير الراحمين